شوقي عواضة | كاتب وإعلامي لبناني .
منذ أن كان الوجود كان الحقّ والباطل والخير والشرّ، والتاريخ الإنساني حافل بمسيرات الأنبياء والرّسل والصّالحين والثائرين من أجل الفقراء والمستضعفين التي لم تكن إلا لصالح الإنسانية جمعاء. وعلى امتداد هذا الصّراع القائم لم يكن هناك دورٌ حياديٌّ بالمعنى الحقيقي للحياد، بل إنّ الحياد هو موقف ينبع عن ضعف ووهن وجبن وتراجع واستسلام أمام الجبابرة. وقد اتخذ البعض التسامح والمحبّة غطاء للحياد واستدلّ البعض بمقولة السّيد المسيح عليه السّلام (إذا ضربوك على خدّك الأيمن فدر لهم الأيسر) وهي مقولة مرحليّة أطلقها السيد المسيح في بداية رسالته عندما كان أصحابه قلة، لينتقل إلى مرحلةٍ جديدة استكمل فيها العدد والعدّة واكتملت فيها عناصر المواجهة وإعلان المقاومة على طغاة اليهود ليخرج بمقاومته قائلاً (بیتي بیت الصّلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) بتلك العبارة أعلن السّيد المسيح ثورته ومقاومته للصوص المعبد الذين طغوا فساداً وظلماً فتصدّى بكلّ ما أوتي من قوّة وصرامة لانحرافهم وفسادهم، ودخل المعبد مقاوماً ومواجهاً طغاة اليهود وحاججهم في معبدهم وأنّبهم ووبّخهم وحطم كلّ أدواتهم ووسائلهم وطردهم ليعلن بعد انتصاره على الطّغاة عنوان مرحلةٍ جديدة بقوّة منطقه وحكمة موقفه أمام الناس جميعاً (من لا یكون معي فهو عليّ).
ذلك هو عيسى بن مريم الذي لم يلن أمام الظلم والعدوان فكان المقاوم الأوّل من أجل الإنسانيّة وأرسى قاعدة من قواعد مواجهة الطغاة شكّلت للكثير من المقاومين انطلاقة لتطبيق تعاليمه، ومن أولئك المقاومين الراحل الكبير مطران القدس المقاوم هيراليون كبوجي الذي حمى المقاومة بعباءته الكهنوتية وشكّل أوّل خليةٍ فدائيّة في القدس على أثر احتلال الكيان الصّهيوني للضفة الغربية في الخامس من حزيران عام 1967. لم يتحمّل مطران المقاومة ظلم الاحتلال الصهيوني وعتوّه ولم يغمض عينيه على مشاهد ارتكاب المجازر وغزوات قطعان المستوطنين، لم يتخذ موقفاً حيادياً من شعبه الذي يذبح، ومن وطنه الذي يغتصبه عدوّه، ثار مطران المحبة والسّلام مقاوماً على درب السّيد المسيح، فكان أيقونة المقاومة العابرة للطائفية والمذاهب مجتازاً حدود فلسطين رافعاً راية المقاومة بكلّ اعتزاز بالرّغم ممّا واجه من صعاب لم يلن ولم يهن ولم يحايد حتى الرّمق الأخير من حياته. وعلى دربه المقاوم مضى مطران القدس عطا الله حنا الذي لا يزال يقارع الاحتلال بكلّ قوة وعزم، أولئك هم تلامذة السيد المسيح الفدائي الأوّل من أجل المظلومين والمقهورين والمستضعفين.أمّا في لبنان فلا بدّ من تأكيد حقيقة تاريخية دامغة من الواقع تقول إنّ صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع وجودي لن ينتهي إلّا بزوال هذا الكيان السرطاني والشّواهد التاريخيّة تحدّثنا عن ذلك، وما رسالة العلّامة الراحل الإمام السّيد عبد الحسين شرف الدين للرئيس بشارة الخوري عام 1949 بعد ارتكاب العدو الصّهيوني مجزرة في بلدة حولا الحدوديّة إلّا شاهد من شواهد كثيرة، حينها غابت الدّولة عن الجنوب دون حمايةٍ أو رعاية، فكتب إمام المقاومة التي شكّلت تحوّلاً مهمّاً إبّان الاحتلال الفرنسي للبنان، كتب للرئيس خوري قائلاً (وحسبنا الآن نكبة جبل عامل هذا الجبل الأشمّ الذي يدفع ما عليه من ضرائب ولا يعطى ما له من حقوق وكأنّه الشريك الخاسر)، خاتماً رسالته بعد استعراض العدوان بقوله (إنْ لم يكن من قدرة على الحماية أفليس من قدرة على الرّعاية وإنْ قرأتم السلام على جبل عامل فقل السّلام على لبنان). منذ ذلك الوقت الذي اغتصبت فيه فلسطين ومعاناة الجنوبيين كانت تزداد مرارة ولدت منها مقاومةٌ حملها أمام الوطن الإمام المغيّب السّيد موسى الصدر وافتداها الشّهداء القادة من السيد عباس الموسوي حتى آخر الشهداء مقاومة حمل أمانتها الأمين على الوطن السّيد حسن نصر الله استطاعت أن تسجّل انتصاراً للبنان والعرب غيّرت فيه المعادلة وهزمت (الجيش الذي لا يُقهر) في عهد الجنرال الأبي والرئيس المقاوم العماد إميل لحود الذي أعاد عهده المجد والعزّة للبنان وشعبه، فكان شريك المقاومة التي تطوّرت بأدائها وعديدها وقدراتها حتى أصبحت قوّةً كبيرة للبنان كلّ لبنان، مقاومة تصدّت ودحرت مشروع داعش التكفيري قدّمت خيرة أبنائها من أجل لبنان مقاومة عمّدت لبنانيتها بالأرواح والدماء، حتى غدت بارقة الأمل الأخير لكلّ الأحرار والشرفاء. تلك هي مقاومتنا يا غبطة البطريرك، هي نفس المقاومة التي أخذنا بعض تعاليمها من سيّدنا المسيح، وذلك هو سلاحنا الذي حرّر لبنان وحماه، سلاحنا يا غبطة البطريرك هو نفس السّلاح الذي استعمله السّيد المسيح في مقاومة لصوص الهيكل، وهو ذاته الذي حرّرنا به معلولا وكنائسها ودافعنا به عن أخوتنا في الإنسانيّة، سلاحنا يا غبطة البطريرك هو الموقف سلاح والمصافحة اعتراف، وهو موقف السّيد المسيح الذي لم يحد عن الحق قيد أنملة… ذلك هو سلاحنا وتلك هي قوّتنا التي نستمدّها منذ أن صاغها إمام الإنسانيّة علي بن أبي طالب… إما أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق.