العميد الركن شارل ابي نادر | باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
لم تقتصر النتائج الكارثية لعملية “سيف القدس” الأخيرة على ما فرضته المقاومة الفلسطينية من معادلات استثنائية وغير منتظرة سوف تصيب من موقع “إسرائيل” وموقفها مقتلاً لمدة طويلة، فقد ساهمت العملية في كشف جرح لطالما كان الكيان الصهيوني يتغاضى عنه، ويحاول تأجيل الاعتراف بخطورته وحساسيته في الصراع والمواجهة التي يخوضها مع المقاومة الفلسطينية بشكل خاص، ومع محور المقاومة بقيادة إيران بشكل عام، وهو الجرح الذي يسببه عجز القبة الحديدية وفشلها (ولو جزئياً)، ويعتبر من الناحية العملية الأكثر قدرة على التأثير في أمن الكيان ومستقبل استمراره وتواجده غير الشرعي في المنطقة.
قد يكون – بل من المؤكد – السبب الوحيد الأكثر تأثيراً، والذي فرض على “إسرائيل” المسارعة إلى الموافقة على وقف إطلاق النار، هو الهلع الذي سبَّبته الصّواريخ التي تساقطت في كلّ مكان كانت تعتبره محمياً، وما سبَّبته من ارتباك سياسيّ وعسكريّ وشعبيّ أمام فشل القبّة الحديديّة، وأمام عجز منظومة الدفاع الجويّ الإسرائيليّ بشكل عام عن حماية هذا الكيان.
تقنياً وفنياً، ونتيجة تجارب عديدة، هناك استحالة مؤكدة لوجود قدرة كاملة للقبة الحديدية الإسرائيلية أو لأي منظومة عالمية، روسية أو أميركية أو غيرها، على تأمين حماية كاملة. إنَّ تقارير كل الخبراء العسكريين، ومن الاتجاهات والتموضعات كافة، والتي جاءت نتيجة مسار واسع من التجارب والمعاينات، تؤكّد استحالة نجاح أية وسيلة دفاع جوي في التصدّي للصواريخ والطائرات المسيرة أو القاذفة أو أي نوع من المقذوفات الطائرة.
وقد تكون الدّراسة التي قدَّمها الكاتب علي جزيني في مقالة متخصّصة عن الموضوع، نشر في موقع “الميادين نت” تحت عنوان “جدار جابوتنسكي الحديديّ: عن القبّة وأمور أُخرى”، تحمل الكثير من المعطيات العلميّة والتقنيّة التي تثبت هذه الاستحالة.
أيضاً، توصَّلت أكثر من دراسة متخصّصة بمميزات منظومات الدفاع الجوي وقدراتها إلى خلاصة مفادها أنّ هناك صعوبة كبرى لجمع القدرة على مواجهة الصواريخ وباقي المقذوفات الطائرة مع مواجهة المسيرات التي تحلق على ارتفاعات خفيفة، بواسطة نظام دفاع جوي واحد، الأمر الذي سيصعّب على “إسرائيل” تأمين حماية فعّالة من استهدافات غزة في الدرجة الأولى، وبالتالي، وجود استحالة لتأمين حماية مقبولة من الاستهدافات الآتية من خارجها، مهما طوّرت الدفاع الجوي أو فعّلته.
بشكل أساسيّ، قد تكون الميزة الفريدة التي تتمتع بها منظومة الدفاع الروسية “إس 400″، وذلك بقدرتها المقبولة، على استهداف أغلب أنواع المقذوفات والطائرات، وعلى مختلف الارتفاعات، هي سبب تفوقها على باقي المنظومات الدفاعية العالمية، وخصوصاً الأميركية منها (“ثاد” و”باك 3″ (باتريوت) المتطورة).
إذاً، إنَّ “إسرائيل” أمام معضلة كبرى مع وجود المعادلات الثّابتة التالية:
وجود قرار والتزام واضح وثابت وجلي لدى المقاومة الفلسطينية بالمواجهة، استناداً إلى المعادلات التي فرضتها مؤخراً بعد عملية “سيف القدس”، وما تضمنه مؤخراً خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في غزة، يحيى السنوار، من تحدٍ وقوة موقف مستند إلى معطيات عسكرية فرضت نفسها، يُضاف إلى تصريح الأمين العام لحركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين، زياد النخالة، في تثبيت معادلة قصف تل أبيب عند أية عملية اغتيال لأحد قادة المقاومة أو كوادرها، من أي فصيل مقاوم كان.
أيضاً، وجود مسار من التطوير المتصاعد بشكل لافت للقدرات العسكرية في غزة، من صواريخ وتكتيكات وإمكانيات أمنية وعسكرية، وهو أمر نهائي لا يمكن إيقافه أو عرقلته، كما تبين مؤخراً…
ومع ثبات هذا الجرح الذي تعانيه “إسرائيل”، والمتمثل بعجز القبة الحديدية ومنظومة دفاعها الجوي وفشلها (ولو جزئياً)، أيّ موقف يمكن أن تتخذه إزاء كل هذه المعادلات الثابتة؟ هل تستسلم وتقرّر وقف المواجهة وإنهاء الاحتلال والبحث عن قطعة أرض أخرى، بعيداً من منطقتنا، تنقل إليها كيانها و”دولتها”؟ ربما لم تقتنع “إسرائيل” بهذا الأمر حتى الآن، على الرغم من كونه حقيقةً تقترب رويداً رويداً، وستعترف بها مرغمةً يوماً ما.
هل تذهب نحو حرب برية لمعاودة احتلال غزة، بهدف تدمير كامل بنيتها العسكرية؟ هذا الأمر دونه صعوبات ضخمة، ستدفع حتماً ثمناً باهظاً إزاءه. وقد كان أحد خياراتها الذي فكّرت فيه مؤخراً في المواجهة الأخيرة في غزة وكادت تعتمده، لو لم تتوصَّل دراساتها الدقيقة إلى خطورته والتداعيات الناتجة منه، إذ ستكون الحرب البرية مكلفة، وستفوق القدرة على تحملها. وكان موقف محور المقاومة حينها، المتمثل باستعداده للانخراط في المواجهة، دعماً ومساندةً للمقاومة الفلسطينية، والذي فهمته “إسرائيل” جيداً، مانعاً لاتخاذها خيار الحرب البرية والدخول إلى غزة.
ومع هذا الخيار أيضاً (محاولة الدخول إلى غزة)، في حال اتُخذَ، كانت ستقع في المشكلة نفسها التي دفعتها إلى اعتماده، وكانت ستكون أمام مواجهة زنار نار وجحيم أضخم وأكثر دقة وفعالية من صواريخ غزة، ومن الاتجاهات كافة تقريباً، البعيدة والمتوسطة والقريبة…
مع كلّ هذه التعقيدات التي تواجهها، ما الحل بالنسبة إلى “إسرائيل”؟
هل تستنتجه من كلام يحيى السنوار الأخير الذي – على الرغم من إشارته بوضوح إلى أن عقيدته وعقيدة من يمثل تقوم على فكرة زوال “إسرائيل” – ترك فرصة متاحة، وفتح كوةً في جدار المواجهة المفتوحة للتوافق مع الأطراف الفلسطينية التي تمتلك قراراً صادقاً بالسير في تسوية تحفظ الحقوق وتعيد الممكن منها.
في الأساس، أتى الاستهداف الصاروخي لتل أبيب والمستوطنات الأخرى أثناء المواجهة على خلفية الاعتداءات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى والشيخ جراح، وكان شرط إيقاف المقاومة الفلسطينية تلك الاستهدافات الصاروخية وقف هذه الاعتداءات في القدس والمسجد الأقصى والأحياء الفلسطينية التاريخية في محيط الأقصى.
من هنا، إنَّ الحل بالنسبة إلى “إسرائيل”، في المعضلة الحالية فقط، المتمثلة بصواريخ المقاومة، لا تواجدها الدائم كاحتلال مغتصب للأرض وللمقدسات، أصبح واضحاً وضوح الشمس، وهو وقف الاعتداءات في القدس ووقف محاولات التهويد وعمليات الاستيطان فقط.
هذا الحلّ يمكن أن يكون مستمراً وثابتاً أكثر، من خلال تراجع الإدارة الأميركية عن قرار اعتماد القدس عاصمة الكيان، والتراجع عن اعتمادها مركزاً للسفارة الأميركية في “إسرائيل”، إضافةً إلى دعم واشنطن وقبول “إسرائيل” بالعودة إلى المفاوضات المرتبطة بالتوصل إلى “حل الدولتين” برعاية عربية وإقليمية، وبإشراف الأمم المتحدة.
الميادين نت