الدكتور اياد خازر المجالي| باحث أردني في العلاقات الدولية والشؤون الايرانية .
مع بداية التصعيد في القدس، وانتقاله إلى أراضي الـ 48، ومن ثم مشاركة الفصائل الفلسطينية، بصواريخها وزخمها الهجومي، مع توالي التصعيد الذي دأب من خلاله الكيان الصهيوني عبر ممارساتها القمعية في التهجير القسري والعنصري بالإضافة الى قمع ابناء الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة، سعى من خلالها جيش الكيان وقيادته إلى تحقيق جُملة من الأهداف البعيدة والقريبة، سواء على مستوى الداخل الفلسطيني، أو لجهة علاقات الكيان الصهيوني الإقليمية والدولية، لكن في المقابل، لم تركن جماهير الشعب من نشطاء وفصائل فلسطينية، لهذا التصعيد الإسرائيلي في القدس وباقي المدن الفلسطينية، وصولا إلى قطاع غزة، لتبدأ هذه الجماهير بالتعبير عن غضبها , الامر الذي دعمته الفصائل بعملية عسكرية موازية تصدت لممارسات الكيان الصهيوني على الرغم من التحذيرات التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية، قبيل التصعيد، لكن بنيامين نتنياهو لم يأبه لتلك التحذيرات، بُغية التغطية على فضائحه وإخفاقه في تشكيل الحكومة، ومن الواضح أن الجيش الإسرائيلي، لم يستطع حتى الآن، وأد القوة الهجومية التي تتمتع بها الفصائل الفلسطينية، وكذا لم تتمكن القبة الحديدية الوهمية، من التصدي بالشكل المُناسب للصواريخ الفلسطينية، ما يؤكد بأن هذه الفصائل أعدت عدتها بشكل جيد، واستلت سيفها، للدفاع عن القدس وفلسطين وكل القيم الانسانية عموماً، وبدأت جولة جديدة من المواجهات المفتوحة، التي أرخت بظلال تأثيراتها على فلسطين والإقليم وعموماً, في مشهد اعتقد انه كسر هيبة الكيان الذي طالما عاش جيلنا ينظر الية كقوة رهيبة لا يمكن مواجهتها .
أظهرت المؤشرات الميدانية حجم كبير من انعكاسات العدوان على الوضع الداخلي الاسرائيلي، والفلسطينيين, ابرزها بأن الكيان الصهيوني من جانبه، قام باستخدام أحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة في تل أبيب وواشنطن، في محاولة منه لرسم حدود جديدة للمشهد الفلسطيني، ووفق ما يحلو للجنرالات الإسرائيليين، تنفيذه على أرض الواقع، لكن حسابات الساسة والجنرالات الإسرائيليين، أخفقت في رسم حدود للمواجهة، وتأطير قوة الفصائل الفلسطينية الصاروخية، ومع تكثيف الهجمات الإسرائيلية، كان لزاما على الفصائل في غزة، التحرك وهذا ما حدث؛ فالرؤوس الحامية في تل أبيب، لم تنحاز إلى لغة المنطق والواقع، فانفجر الصاعق الفلسطيني، مُبدداً معه كل التقديرات الإسرائيلية، وقراءات مراكز الأبحاث في تل أبيب، والتي أكدت مراراً، أن أي مواجهة قادمة سيكون الجيش الإسرائيلي، قادراً على التصدي لها، لكن حقيقة الأمر، فإن التحولات التي فرضتها صواريخ المقاومة الفلسطينية، أُفضت بنتائج ودلالات يبدوا ان الكيان استسلم لها ، أولها وفي مقدمتها، أن الردع الإسرائيلي بات غير قادر على تأطير صواريخ الفصائل الفلسطينية التي اخترقت القبة الوهمية وصولا الى عمق مدن الكيان ومستوطناته ، كما أن الجيش الإسرائيلي وأمنييه وحتى على مستوى الاستخبارات قد سُجل إخفاقاً كبيراً، لجهة القراءات الاستخباراتية والتصورات الأمنية، والتي تُحدد بشكل مُسبق بنك أهداف في داخل قطاع غزة، والتي على الرغم من الاستهداف المكثف لتلك الأهداف، إلا أنها لم تتمكن القوة النارية للجيش الإسرائيلي، بإسكات صواريخ الفصائل الفلسطينية. كل ذلك، يدخل في إطار التحولات الاستراتيجية، والتي أسفر بلا ريب الى ادوات ردع جديدة ومعادلات فرضها الميدان، وادت الى ولادة واقع فلسطيني واسرائيلي، مُغاير للصورة النمطية والتي سادت خلال جولات التصعيد السابقة.
لذلك لا يُمكن أن ينكر أي مشكك بحجم المتغيرات والمعادلات الجديدة وتطور ادوات الردع الفلسطيني، وحتى على مستوى الساسة الإسرائيليين، بأن الفصائل الفلسطينية، تمكنت من تحقيق توازن ردع متبادل مع ” إسرائيل” ، بل وتثبت معادلات قصف جديدة، ليُعلّق مراسل قناة “كان” العبرية بالقول إن هناك “انخفاضاً كبيراً في القصف على غزة بعد تهديد أبو عبيدة”، على أن الساعات اللاحقة قد تحمل تطوّرات أُخرى. لكن في المقابل، ومع استنفاذ بنك الأهداف الذي وضعته إسرائيل، بدأ الجيش الإسرائيلي بانتهاج سياسة جديدة، تتمثل في استهداف المصالح الاقتصادية في قطاع غزة، كجزء من أدوات الضغط على الفصائل الفلسطينية، بعدما أخفق في التأثير في مسار المعركة، على رغم استهدافه الحاضنة الشعبية للفصائل، وفي الجانب الأخر، فإن الصواريخ الفلسطينية، تمكنت من إحداث حالة شلل في كل ” إسرائيل ” ، مع استهداف للمنشآت النفطية والاقتصادية الهامة، لإحداث أكبر ضرر اقتصادي ممكن، يُجبر ” اسرائيل ” على التراجع وإيقاف الهجوم ضد القطاع، فضلًا عن أن غالبية المؤسسات الإسرائيلية وعلى امتداد مساحة تل أبيب والمستوطنات والمطارات المدنية، التي أقفلت أبوابها وإغلاق مطار بن غوريون وتحويل الطيران القادم إلى اليونان وقبرص، وإصابة الملاحة الجوية بشلل كبير، وهذا أيضاً تطور نوعي كبير.، ما يعني أن الخسائر الإسرائيلية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، ستتكشف تباعاً بعد ترسيخ الهدوء.
لا شك بأن التصعيد الناري بين الفصائل الفلسطينية و” إسرائيل ” ، مرتبط بشكل أو بأخر، بأجندة خاصة يتبعها بنيامين نتنياهو في داخل مؤسسات صنع القرار الصهيوني، وربما أعتقد الأخير، أن حالة التصعيد من المُمكن أن تُحدث فرقاً سياسيًا يبحث عنه، ويحاول أيضاً أن يُثبت لجمهوره خاصة والإسرائيليين عامة، أنّه القادر على إجراء عمل عسكري سواء ضد قطاع غزة، أو ضد اطراف وفواعل اقليمية يناصبونه العداء، لكن المفارقة أن نتنياهو قد وقع في فخ السياسة، وبالتالي جاءت النتائج الأولية لحالة التصعيد، وفق منظور مختلف لكل التصورات التي وضعها نتنياهو والقادة الإسرائيليين، فالتصعيد في فلسطين لم يؤدي إلى تثبيت جُملة سياسات نتنياهو، سواء في الاستيطان أو في القدس، وربما الرجل اتخذ من صفقة القرن، بُعداً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، للشروع بتعزيز مستقبله السياسي، ناسياً أن هذه الصفقة جاءت ضمن حسابات إقليمية ودولية، ترتبط بحالة اللا استقرار في المنطقة، ما يعني أن الصراع الذي تخوضه إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين، دخل مرحلة جديدة، في الغالب أن الولايات المتحدة، لن تكون طرفاً فيه, بل مجرد متجر لبيع الاسلحة ووسيط في تخفيف القصف على مدن وبلدات ومستوطنات الكيان من خلال استثمار اطراف عربية.
أيضاً فإن نتنياهو، أراد من حالة التصعيد الغير مُبرر، خلط الأوراق في المنطقة، في ظل المحادثات التي تقودها الولايات المتحدة مع إيران من أجل العودة إلى الاتفاق النووي، لتبدو الأحداث الفلسطينية، وكأنها رافعة لأهداف نتنياهو، فضلاً عن أن حالة التصعيد التي أراد من خلاله نتنياهو، توجيه رسالة إسرائيلية، مفادها أن ” إسرائيل ” تستطيع متى تشاء، بالزج برغباتها وإشعال المنطقة، خاصة أنها باتت تتمتع بغطاء عربي جاء بعد اتفاقيات التطبيع، لكن عرب التطبيع ومعهم ” إسرائيل ” ، وعطفاً على حالة التصعيد، كانوا جميعهم يعيشون وهم القدرة الإسرائيلية على تحقيق أي مُنجز سياسي لجهة إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو لجهة القدرة الإسرائيلية على نسف كل صواريخ فصائل المقاومة في فلسطين ، بالقوة النارية الإسرائيلية، لكن الفشل بات واضحاً، في قراءة تغيير موازين القوى، وتغير المعادلات التي هندستها الصواريخ البالستية الفلسطينية، وجُملة الانتصارات التي تحققت في المنطقة، وبطبيعة الحال استفادت منها الفصائل في فلسطين.
وفي المقلب الأخر داخليا على المستوى الفلسطيني، فإن الفصائل الفلسطينية، حاولت عبر الزج بصواريخ جديدة في المواجهة مع ” إسرائيل ” ، توجيه رسائل سياسية من الفصائل الفلسطينية والتي طالتها بعض الانتقادات، سواء على المستوى الداخلي، أو على صعيد الإقليم، فضلًا عن أن الفصائل الفلسطينية ترغب وبشكل غير مباشر، من وضع القيادة الفلسطينية أمام التزام تاريخي، يتمثل في الانصياع للفلسطينيين وحدهم، وألا تكون السلطة أداة بيد ” إسرائيل ” ، فضلاً عن إحراج دول التطبيع، وتعرية مواقفهم تُجاه ما يجري في فلسطين، ما يعني أنه ثمة أهداف اسرائيلية كذا لجهة الفصائل الفلسطينية، في تمرير رسائل سياسية داخلياً وخارجياً، مع رفع سقف التفاوض بالتصعيد والاستهدافات الصاروخية المتبادلة.
ومع استمرار حالة التصعيد المتبادل في فلسطين والجولة القائمة من الصراع بين المقاومة الفلسطينية ( الشعبية والمسلحة) وبين الكيان المحتل ، يُمكن رصد نتائج ودلالات وفقًا لما أفرزته المواجهة الميدانية بأنها أثبتت وبالقطع قدرة المقدسيين على مواجهة القوات الإسرائيلية، بل وإجبارهم على التراجع والانسحاب، الأمر الذي ترجمه صدور قرار المحكمة القاضي بتأجيل تنفيذ مصادرة بيوت الفلسطينيين في الشيخ جراح, كما نجحت الفصائل الفلسطينية، بوسم المشهد الفلسطيني، بمعالم جديدة واستراتيجية عميقة، وان اعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل امرا بات ليس حقيقة سياسية ولم يتم التعامل معه كمسلمة سياسية في اطار الصراع العربي الصهيوني, فحين تُهدد الفصائل الفلسطينية باستهداف العمق الإسرائيلي، إن لم تتوقف القوات الإسرائيلية عن التصعيد، وتقوم تلك الفصائل بتنفيذ تهديداتها، يعني أننا أمام حالة تؤطر كل التوجهات الإسرائيلية المستقبلية تُجاه الفلسطينيين.
اللافت في التصعيد الأخير، أن المواجهات كانت في القدس فقط، لكن ومع دخول الفصائل الفلسطينية في مشهد التصعيد، يعني أن ” اسرائيل ” فشلت في فصل خطوط المواجهات بين المناطق الفلسطينية، وما يُعزز هذه الرؤية، انتقال المواجهات إلى أراضي الـ 48, باتساع ساحات المواجهة لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة والتصدي المباشر لقوات الاحتلال وشرطته هذا بالإضافة الى انها المرة الأولي التي يتم بها استهداف تل أبيب، فقد أجبرت الصواريخ الفلسطينية، مئات آلألاف من الإسرائيليين على الإقامة في الملاجئ، فضلاً عن تحول كل جغرافيا الداخل الآمن إلى أهداف مكشوفة تحت نيران الفصائل الفلسطينية، أي سقوط نظرية أمان البطن الرخو الإسرائيلي. فضلاً عن اخفاق عسكري اسرائيلي واضح في هذا الإطار.
الحقيقة ان هذه الموجهة ومالاتها تشكل انعطاف وتحول تاريخي عميق اسفرتها بنصر استراتيجي مقابل الهمجية العسكرية الصهيونية الإسرائيلية وتكثيف عمليات القصف بشتى أنواعه على قطاع غزة، واستهداف الأبنية السكنية، وارتفاع عدد الشهداء والجرحى، فضلا عن التدمير الكبير في البنى التحتية لتعطيل دورة عجلة الحياة، وكل ذلك لم يقلل من وتيرة القصف الفلسطيني يومياً بمئات الصواريخ للعمق الإسرائيلي.
كما دلت معركة القدس عن العجز المطلق لسلطة التنسيق الامني الفلسطينية، وثبت أن القرار الاستراتيجي في التوجهات الفلسطينية هو بيد غزة وليس رام الله، ولعل ذلك يجعلني اتوقع ان تطرح سلطة التنسيق الامني مبادرات او مواقف لتحاول استعادة ما تظنه موقعها في القرار الفلسطيني.