معاني التدحرج في الخسارات المعنوية للقوات في زمن ما بعد 17 تشرين
ميشال ابو نجم | كاتب وباحث لبناني
لوهلة، اعتقدتْ القوات اللبنانية أنها- وعمِلت بقوة دعائية تميزت بها تاريخياً – على إظهار نفسها أنها خارج الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، وخاصة بعد انفجار انتفاضة 17 تشرين الجارفة، قبل أن يظهرَ الجَزْرُ السياسي محدودية الآمال والطموحات وانكشاف الرهانات الحقيقية.
…
قواتٌ” جديدة؟
على أن اللبنانيين يعلمون جيداً أن “القوات” شكلت ركناً أساسياً في قوى 14 آذار وحكومات ما بعد العام 2005، ولو أن التحالف الرباعي لم يمنحها إلا الفتات الحكومي، ولم يعزز تمثيلها في مجلس الوزراء إلا نتيجة لتثبيت التيار الوطني الحر احترام الحد الأدنى من التمثيل المسيحي الحقيقي، بدءاً من حكومة السنيورة على أثر أحداث 7 آيار وصولاً إلى حكومة الحريري في العام 2009. كما أن اللبنانيين يحفظون أن قيادتها التي رفعت شعار “السيادة” ورأت في معايير الميثاقية والتوازن ترفاً في مرحلة ما بعد الإنسحاب السوري، لم تقارب أي من ملفات الفساد وعدم وجود موازنات والخلل البنيوي في السياسات المالية والإقتصادية، داعمةً لخطوات فؤاد السنيورة الممثل الأقوى لنهج الليبرالية المتوحشة. وبعد تراجع عامل الإنقسام العامودي ل 8 و14 آذار واستخدام ورقة سلاح حزب الله، بعد التفاهمات والتسويات المختلفة في العام 2016 وعشية انتخابات رئاسة الجمهورية، ذهبت “القوات” في اتجاه استخدام شعار “التيار” الأساسي في الإصلاح ومواجهة الفساد، سعياً إلى تمييز نفسها واستخدام شعارات مستجدة في مرحلة متغيرة، وخاصة بعد فشل تجربة التفاهم مع التيار الوطني الحر في شكل متسارع. فبات “التيار الوطني” بقيادة جبران باسيل هدفاً لتصويب وزراء “القوات” في الحكومة، علّها بذلك تستفيد من وصول مؤسس التيار الأقوى في البيئة المسيحية إلى رئاسة الجمهورية، ومن “غطس” “التيار” في وحول السلطة.
مهدت “القوات” لصورتها الدعائية الجديدة بتنظيم حديدي مُحكم وصورة تسويقية لحزب جديد ومشهد جديد لقائدها بعد العام 1986، يخلع البذة العسكرية والبندقية، لتبدو حزباً عصرياً مدنياً ليبرالياً إصلاحياً. وقد استندت إلى بعض نقاط القوة أبرزها أن تحميلها لوحدها مسؤوليات خطايا الحرب، لا يستقيم في توازنات الإجتماع السياسي اللبناني المتعدد طائفياً ومذهبياً. أضف إلى ذلك أن سجن سمير جعجع في الشكل الذي حصل فيه وحل “القوات”، خلق تعاطفاً من شريحة كبيرة من اللبنانيين في التسعينات، لعل أبرزهم خصمه العماد ميشال عون الذي كان أول من رفع الصوت معترضاً على طريقة تعاطي النظام المرعي سورياً مع جعجع و”القوات” وملفاتها المفتوحة.
إحياء الصورة القديمة
استطراداً، مثَّلت التحركات الميدانية للإنتفاضة، الفرصة الأمثل أمام سمير جعجع لقيادة الشارع، واستهداف “التيار” برموزه كافة، من رئيس الجمهورية ونزولاً… فنزل عناصرها في مناورات ميدانية متواصلة لقطع أوصال الطرق الرئيسة في المناطق المسيحية، بالخلفية العسكرية المعهودة لجعجع. و*كان مشهد بناء حائط على نهر الكلب برمزيته الجغرافية والوجدانية، أسطع مثل على الرسالة التي وجهها جعجع للجميع في الداخل، ولحلفائه في الخارج: ها أنا مجدداً أمسك بالأرض في المناطق المسيحية. الأمرُ لي!*
وعلى الرغم من “الرهبة” العسكرية التي يذكِّر بها القواتيون، كان للتيار الوطني الحر كلامٌ آخر. سعى لاستيعاب غضب الشارع، لكن حركته لم تتوقف وأعاد إطلاقها تدريجياً في اتجاهات مختلفة، وصولاً إلى تبلور مجموعة “الحرس القديم” التي أعادت إلى الوجدان تحركات “التيار” النضالية في التسعينات وأساليبه الديناميكية الإبتكارية في تحريك الشارع والتواصل مع شرائح الرأي العام اللبناني.
مع الوقت، ظهر أن حسابات “القوات” لم تطابق بيدر الوقائع، وسرعان ما تحولت المكاسب المفترضة للتصويب على رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر إلى خسائر مكلفة، وتشوهات عميقة في الصورة البراقة التي بنتها “القوات”.
فعلى نهر الكلب المقطوع وغيره، عادت صورة “الميليشيا” العسكرية وحواجزها لتتصدر المشهد العام أمام المسيحيين العاديين، لا مناصري ميشال عون فحسب. تكسير سيارات، طلب الهويات من العسكريين في الفانات، قطعٌ للطرق أمام المواطنين. *بلحظة، هشّمت “القوات” هذه الصورة الجميلة التي استغرق بناؤها سنوات وسنوات من التواصل والعلاقة المبنية على ضفاف قوى 14 آذار.*ورويداً ورويداً، تصاعد الشرخ في الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي بين “القوات” الطامحة لقيادة “الثورة”، وبين قوى الإنتفاضة وشرائحها المتنوعة الكثيرة، والرافضة بالتأكيد لادعاءات الأحزاب المسيحية المخاصمة للتيار باحتكار حركة الشارع وخطاب “الإنتفاضة” السياسي.
كان اشتباك الجميزة مع فتيان يساريين تأكيداً واضحاً لهذه الصورة، على الرغم من أولئك الفتية لم يوفروا العنف والمولوتوف في التحرش بالقوات. لكن الإنطباع والصورة اللذين تأكدا في الألفاظ الموجهة لبعض الفتية اللذين غطت الدماء وجوههم، لجهة أن “القوات” هي الدرع الحامية للمناطق المسيحية، هما أقوى من أي وقائع.
ضربة “الصقر”
الضربة الكبرى التي أتت على رأس “القوات”، ولم تنتهِ مفاعيلُها حتى الساعة، هي حكاية “صقرها” في الخطاب المتشدد والتمويل، والذي بات متوارياً عن الأنظار. فتحَ ملف احتكار الوقود، ومن ثم كشف النيترات، باباً على غفلة من “القوات” المصوبة على التهريب إلى سوريا ودور حزب الله في هذا المجال. فحتى لو تنصلت “القوات” من ابراهيم الصقر وشقيقه، ولو أنه بالمبدأ لا يمكن أخذ حزب كامل بجريرة قيادي كبير فيه، فإن ذلك لا يلغي هذا الإرتباك في التعاطي مع أزمة غير مسبوقة لقوة سياسية صورت نفسها أنها خارج ارتكابات المنظومة الحاكمة وفوق الشبهات، وتحولت من الهجوم إلى وضعية الدفاع…
ومن الخاصرة الزحلية أيضاً، التي نجح جعجع في تركيز “نيرانه” السياسية والتنظيمية عليها، أتته خسارة النائب الشاب سيزار المعلوف، الذي عبّر عن المصلحة العميقة لمنطقته وبيئته في العلاقة مع محيطها. وعليه، تراكمت التحديات أمام “القوات” (القوية أساساً في المدينة التي تصل جبل لبنان بالعمق البقاعي وصولاً إلى مشارف دمشق)، في تأكيد صدارتها النيابية مجدداً في استحقاق 2022.
“اضطهاد” أم تقوقع؟
وما يزيد من سخرية القدر أمام القيادة القواتية، أن مشهد تطويق وعزل منافسها، التيار الوطني الحر، وتوتر علاقاته مع القوى السياسية المختلفة بمن فيهم حليفه الأساسي حزب الله، انسحب عليها أيضاً. حليف الأمس تيار “المستقبل”، يقولون إنه يستغل حادثة الصقر لتحصيل حسابات تحريض “القوات” على سعد الحريري في السعودية. العلاقة مع وليد جنبلاط باردة وعادية، في ظل مسارعة زعيم “الإشتراكي” لتحييد نفسه ونسج هدنة مع خصمه التاريخي في قصر بعبدا. توتر في العلاقة مع طرف المصالحة الشمالي سليمان فرنجية، لكن وحده رئيس البرلمان نبيه بري تحتفظ معه “القوات اللبنانية” بتناغم ضمني عميق، يعبر عنه عزوفها عن التصويب عليه، في مقابل تحويل كل النيران في اتجاه “التيار”، الطرف الأخير الذي شارك في نظام ما بعد 2005.
تبدو هنا سردية “القوات” عن استعادة ممارسات الزمن السوري غير صالحة للصرف الإعلامي والسياسي، على الرغم من براعتها الإعلامية في استعادة الماضي لتجييش الذاكرة الجماعية القواتية والمسيحية. *لا يمكن إقناع أحد واجه الجيش السوري أن احتكارات البنزين والمازوت هي “اضطهاد” و”قمع” و”استهداف”، بالقدر نفسه الذي من الصعب إقناع الشارع المسيحي المحايد بأن التصويب الدائم على رئيس الجمهورية، هو استكمال لتراث المسيحية السياسية الذي تدعي “القوات” استكماله*، في ظل التناقض الكامل مع كل مواقف الشيخ بيار الجميل مؤسس الكتائب اللبنانية، الأم الشرعية للقوات، والداعمة دائماً وأبداً لرئاسة الجمهورية.
بطبيعة الحال، فإن ترجمة الخسائر المعنوية في السياسة والصورة الإعلامية، لا تزال قيد المتابعة وصولاً إلى ما ستكشفه صناديق الإقتراع. لكن الأكيد أن ما خسره “التيار الوطني”، لم تربحه القوات اللبنانية. لا تزال في نظر الشارع المنتفض قوة سياسية من قوى نظام ما بعد 2005، وليس قوة تغييرية ثورية جديدة وبديلة. وفي المقابل، نجح العونيون في استيعاب الهجوم القاسي وتحولوا إلى الهجوم المضاد في كل الإتجاهات، معيدين الراديكالية إلى صدارة الخطاب السياسي، في الشارع أو على منبر مجلس النواب.
على أن منافسي “القوات” وخصومها، يعتبرون أن الخسارة الفعلية والعميقة تبقى في الحسابات الخائبة لقائدها على الرهانات الدولية والإقليمية. ففي الإنسحاب السريع لأميركا من أفغانستان وعدم اكتراثها بعشرين عاماً من الإستثمار في البلد الآسيوي الجبلي، وغض نظر واشنطن عن المساعدة الإيرانية النفطية، علامات زمن جيو استراتيجي آت ومتحول، لا مكان فيه لخيارات جعجع ورهاناته سوى الإستخدام في زمن المواجهات، ويتم التخلي عنه في زمن التسويات…
https://akhbarkum-akhbarna.com/ViewPost/672