أحمد عز الدين | باحث مصري في الإستراتيجيا
منشدّون إلى مظاهر الأزمة لا إلى جوهرها ، منغمسون فيما يتشكّل من أحداث على سطحها ، لا فيما يتخلّق فى باطنها منشغلون بهوامشها لا بقلبها المحتقن!
– 1- ليس الخروج من حقبة والدخول فى حقبة أخرى ، بمثابة فتح باب بين غرفتين , وإنما بمثابة ممر طويل ، تتشارك فيه وتتداخل ملامح الحقبة الأولى والثانية ،حتى تأتى النقلة أو نقطة التحول التى تشبه لحظة الإنكشاف أو لحظة التنوير فى الدراما ، بعد أن تداخلت وتصادمت المصالح والمطامع والإرادات الناقصة باعتبارها القمة أو الذروة الدرامية ، التى يشّف فيهاالصراع ، ويستبين المصير النهائى لأبطاله وشخوصه وجمهوره . ولذلك لكأننا فى محيط هذا الشرق الأوسط الكبير ،قرب ذروة درامية تبدو فاجعة ، وقرب مصائر أبطال تبدو مسكونة باندفاع قدريّ نحو مصائرها المحتومة ، شأنها شأن أبطال التراجيديا الإغريقية ، أولئك الذين كلما سعوا إلى الهروب من مصائرهم المحتومة كلما قادتهم إندفعاتهم غير المحسوبة اليها ، لكن الخروج هذه المرة ليس خروجاً من الدراما ولا حتى من الواقع وإنما من التاريخ ، ولن تخلو بعض صوره من صور ( ماكبث) من مسرحية شكسبير الشهيرة والذى كما عاش بالسيف مات بالسيف أيضا.
-2-أغلب الظن دون مواربة ، أن هذه الحقبة الإسرائيلية ، هى المخلوق المشوّه الأخير للحقبة السعودية، وأنه عازم على المضىّ فى تعريف نفسه بالقوة الجبريّة ، وإذا كانت القاعدة وداعش والنصرة هى أقبح مخلوقاتها ، فإن الجديد سيكون أكثرهم غمراً لضفاف الإقليم العربى بالدم والإكراه والفوضى ، ذلك أنه بالتعبير الغربى ، الشمال فى الجنوب ، والشمال
هنا ليس معطى جغرافياً ، وإنما معطى حضارياً بالمعنى الغربى الكامل وهو لا يستطيع أن يؤثر فى المنطقة ، أو أن يمتطى جوادها الجامح ، بالثقافة أو العقيدة ، أو ميراث التاريخ ، أو وشائج القربى وصلات الدم أو حتى بميزان السلام والحقوق ، فهو ليس جزءاً من لسانها أو من نسيجها الحضارى التاريخى ، إذا لم يكن جزءا من مضادات حضارتها وتاريخها ومستقبلها ، وتأثيره بالتالى لا يخرج عن أداتين متداخلتين : القوة العسكرية الغاشمة ، والمغانم الإقتصادية الواسعة وكلتاهما فى مفهومة الخاص تستهدف خلف هيمنة اقليمية ذاتية ، ليست إمتدادا لهيمنة أمريكية أو أوربية ، وإنما متجاوزة لها ، أى بناء إمبريالية كبرى فى الإقليم ، تمثل ضابط التفاعل الإقليمى المعتمد ، أو بالتعبير الدارج فى الأدبيات الإستراتيجية الإسرائيلية ” ضابط التحكم فى التفاعل الإقليمى ” وهو مفهوم طوره العالم الإسرائيلى ( فيتال ) وساهم فى خلق العقيدة العسكرية الإسرائيلية ، وأصبح واحداً من أهم عناصرها. وهى فى مجملها عناصر جدّدت نفسها وأضافت إليها فى ضوء النتائج العسكرية لحرب أكتوبر المجيدة ، فقد تم تأهيل كل شئ داخلى أو إقليمى لصياغة وضع مضاد لها ، هو بالمعنى والنتيجة والوصف مقلوب
حرب أكتوبر .
لسنا أمام مشهد عابر أو إعتيادى ، وإنما أمام مشهد يمثل خروجاً مكتملاً شاذاً على منطق التاريخ العربى كله ، فقد كان كل مركز قوة قيادى عربى ، عندما يشعر بدبيب الشيخوخة فى أطرافه ، هو الذى يعمد بشكل أو بآخر إلى نقل القيادة المركزية للأمة إلى مركز قوة عربى فتىّ جديد أكثر قدرة ومنعة على حماية العقيدة والزود عن الكيان العربى كله
بتعدد مراكز قواه .
حدث ذلك مع الإنتقال من الدولة الأموية إلى الدولة العباسية ، ثم إلى الدولة الفاطمية ، حتى أن الفاطميين أنفسهم رغم اختلاف المذهب هم الذين استدعوا الأيوبيين فى أوج المعركة ضد الصلبيين ، لكى يتسلموا القيادة منهم فى عاصمة الأمة والإقليم ، وإذا كان انتقال مركز القوة فى كل مرة قد جوبه بتحديات وأطماع ذاتية الطابع ، لكن الإنتقال كان طبيعياً من عاصمة حضارية إلى أخرى ، ومن قوة عربية منطفئة إلى قوة عربية بازغة ، فى كيان عربى ظلّت تتوهج فى روحه الحيّة إرادة الحياة والمقاومة .
هذه المرة فأن أحد مراكز القوة العربية ، بعد أن شارك كمعول هدم لأركان أهم العواصم الحضارية فى الإقليم ، تحت وهم إستحقاق القيادة وعوائدها ، بالإنخراط مفردة طائعة فى الإستراتيجية الغربية المضادة للاقليم ، هو الذى يعمد بعد أن سقط فى برك متتالية من الفشل ، إلى دفع القيادة إلى مركز قوة إقليمى طارئ وطارد لسلامة الإقليم ووحدته ، ذلك أنه بحكم تكوينه وأيديولوجيته التوسعية وعقيدته العسكرية الهجومية ، يمثل أهم المضادات الطبيعية للعروبة والإسلام والدولة القومية العربية والنظام العربى معاً ، متوهماً بضيق أفق تاريخى نادر ، أنه يمكن أن يقتسم معه ثمرة الإقليم ،
بعد أن يمكّنه منها ويمكّن له فيه.
– 4- تلك هى المرحلة الرابعة فى الإستراتيجية الأمريكية المضادة للأقليم ، ولقد سبق وأن تحدثت عنها وعن المراحل الثلاثة السابقة عليها بشئ من التفصيل ، وهذه المرحلة الرابعة هى بالتأكيد قمة المراحل ، وقمة الإستراتيجية المضادة ، ولكنها ستمثل قاع الإقليم ، إذا استطاعت أدواتها أن تفرض منطقها ، وتركب قمتها ، التى ستشكّل ذروة الدخول
فى حالة احتضار عربى طويل ، فوق خرائط مفتوحة لتصدّعات وانقسامات فى دول وأنظمة مجهدة وأخرى متداعية ،
فضلاً عن صراعات اقليمية ممتدّة . ومن المؤكد أن السعودية بالدرجة الأولى ودول الخليج ربما باستثناء واحد شكّلت جميعها العنصر الفعّال فى التمكين لبناء كافة مراحل هذه الإستراتيجية ، بل وساهمت بشكل فعّال – أيضاً – فى مقدماتها ، فقد أمّنت عبور تلك المقدمات إلى أهدافها التالية ، وتكفى فى ذلك الإشارة إلى شهادة موثقة أدلى بها قبل شهور قليلة ( جيراشنكو ) ، محافظ البنك السوفيتى الأسبق فى عصر ( جورباتشوف ) ، أنه ذهب إلى السعودية بطائرة خاصة ، حيث تسلم عداً ونقداً مبلغ أربعة مليارات دولار ثمناً لتنفيذ طلب سعودى ملحّ ، بأن تمنع ( موسكو) عن تقديم أى دعم للعراق فى حرب الخليج الأولى .
و كما بدأت فى هذه الحرب مقدمات تأمين دخول قوات الغزو ، بدأت تتكشف أيضاَ مقدمات دمج اسرائيل عملياً فى معارك الإقليم ، ولم يكن الدمج ساعتها الإ رمزياً ، فمع إستخدام القوات الأمريكية لقنابل اسرائيلية موجهة بالليزر هى ( هاف تاب ) ، كان جميع أفراد القوات الأمريكية يرتدون أحذية كتب عليها صنع فى إسرائيل . وفى المرحلة الأولى فى الإستراتيجية الأمريكية ، مدّ الجميع ظهورهم جسوراً عبرت عليها القوة الأمريكية كى يتم ذبح العراق من الوريد إلى الوريد.
– 5 -غير ان الإنتقال إلى مرحلة ثانية من الإستراتيجية كان مبكراً للغاية ، فقد بدأ التخطيط له والعمل عليه بعد عام واحد من الفتح الإستراتيجى لضرب العراق ، وكانت حلقة التخطيط وتنظيم التعاون لخلق منظمة إرهابية بديلاً للقاعدة ، ومشتقة من رحمها ، مقتصرة على ثلاثة أجهزة مخابرات هى CIA و M16 ، والموساد وسرعان ما اتسع الإجتماع التأسيسى لها فى 2004/2/19 شمال شرق لندن ليضم إلى جانب الحلقة الأساسية ، مديرى أجهزة المخابرات فى تركيا وقطر و دولتين خليجيتيين إضافة إلى سفير دولة خليجية ثالثة فى المملكة المتحدة ومع بداية عام 2006 كان قد تم تعبئة بؤرة واسعة من الإرهابيين فى العراق ، حيث تكفلت السعودية باطلاق النطفة التنظيمية الأولى لداعش داخل العراق ، ثم توسيع حدودها و مد أطرافها ، حيث أصبح الهدف المباشر هو نقل الحروب إلى داخل الدول ، وتحويل الشرق الأوسط إلى بؤرة الإضطراب العالمى الكبير ، وكانت السعودية فى عام 2011 هى أيضاً المسئولة عن إشعال ما بدا انتفاضة مسلحة فى درعا السورية ،وكان التمويل مفتوحاً والتسليح جاهزاً ، مع تنظيم تعاون مع تركيا لفتح ممر آمن لدخول شمال سوريا لعبور إرهابيين اتسعت أعدادهم وفق مصادر موثوقه على امتداد سنوات الحرب الى 370 الف إرهابى ينتمون إلى تسعين دولة ، وهكذا تم إنشاء جبهة النصرة وأحياء القاعدة وجيش الفتح لغزو شمال سوريا 2015 ، بينما كانت قطر ماضية بين عامى 2013 – 2015 فى تقديم كافة صور الدعم لتحالف جيش الفتح والمحور التركى السعودى ، وقبلها بين عامى 2011 – 2012 ملآت ماكينة الإخوان المسلمين بمليارات الدولارات ، بينما كانت غرف العمليات العسكرية تضئ أنوارها فى قاعدة إنجرليك بتركيا ، وفى إربد بقاعدة الحسين الجوية بالأردن ، مكتظة بضباط مخابرات ينتمون إلى الدول السابقة ، إضافة ألى ضباط اسرائيليين وبريطانيين وأمريكيين ، وقد وضعت الولايات المتحدة فى خدمة أعمالهم التخريبية 6 أقمار صناعية ، توفر لهم سبل توجيه الجماعات الإرهابية فوق مسارح العمليات إضافة إلى قواعد عسكرية فى تركيا ، والاردن و قطر والعراق والسعودية
وكانت إسرائيل بالتالى قد اتيح لها أن تندمج عسكرياً بشكل كامل ، فى خرائط الهدم والتخريب والقتل.
غير أن الدور الأمريكى فى النهاية ، كانت له اليد الطولى ، توجيهاً وتنسيقاً ودعماً بالسلاح ، بما فى ذلك الإمداد بصورة مباشرة من الجو بمشاركة اسرائيلية وبريطانية وفرنسية . هكذا فاضت نيران الإرهاب عميقاً فى الميادين التى أريد لها أن تفيض فيها وهكذا أضرمت النيران فى عظام سوريا ثم ليبيا ثم العراق ، بينما تكفلت ما أطلق عليه ثورات الربيع العربى بخلخلة قواعد الأنظمة العربية ، المجهدة أو المتصدّعة فى مصر وتونس ، تهيئة لصعود قوى عميلة للإستحواذ على السلطة تحت لافتة إسلامية برّاقة ، وكما كان هدف المرحلة الأولى من الإستراتيجية هو ضرب فكرة العروبة ، كان هدف
المرحلة الثانية هو خلق صورة فاسدة للإسلام ، تقطر فيها السيوف دماً وتتزاحم فيها تلال الرؤوس المقطوعة .
– 6-تمثل الحرب على اليمن المرحلة الثالثة فى الإستراتيجية الأمريكية دون شك فقد جمعت بين النمطين السابقين ، الحرب بين الدول والحرب داخل الدول . لقد مضى ثلاثة مائة وخمسين يوم منذ أن نشرت هيرالد تريبيون تقريراً لأحد مراكز الأبحاث الغربية ، أحصى عدد الغارات الجوية التى تعرض لها اليمن ب 90 ألف غارة ، وهو ما يعنى ان الغارات الجوية يومياً يساوى 132 غارة ، وأن هناك غارة كل 12 دقيقة وهذا ما يفسر أن التكلفة اليومية للحرب على اليمن ، بلغ متوسطها العام 250 مليون دولار ، وكان العنصر الثانى بعد تخفيض أسعار البترول فى اقتراب السعودية من الدخول
فى أزمة إقتصادية مستحكمة .لقد كان ذلك قبل عام كامل ، وقبل أن نصل إلى رقم 1000 يوم من الحرب والقتل والدمار ، وإذا تصورنا أن العام الأخير قد عكس بدوره نفس المتوسط العام لعدد الغارات ، فنحن أمام رقم غير مسبوق فى تاريخ الحروب ، يتجاوز 130 ألف غارة ، وإذا تصورنا أن كل غارة تحصد من أرواح اليمنيين شهدين اثنين ، وهو رقم مضلل طبعا ،
لأن غارة واحدة على بيت أسرة واحدة فى صعدة قبل يومين حصدت 12 شهيداً ، نصفهم من الأطفال والنساء ، مع ذلك فإن عدد الشهداء وفق منطق هذا الحساب يتجاوز بالتأكيد ربع مليون شهيد يمنى ، ثلثهم على الأقل من الأطفال والنساء ، بينما ما تزال الأمم المتحدة تعيد متمسكة بنفس أعداد الشهداء التى أعلنتها قبل عام كامل ،
وهى 10,000الف شهيد . أما بصدد التكلفة الإقتصادية للحرب ، فيمكن أن نضيف أرقاماً أخرى سوف تحصل تكلفة الحرب على اليمن ، تكاد أن تتجاوز تكلفة الحرب على سوريا ، فهناك – مثلا – كما قالت فورين بوليسي ، ثمن تأجير بارجتين حربيتين أمريكيتين لمدة 6 أشهر بإيجار يومى لكل بارجة 150 مليون ريال سعودى بما يساوى 54 مليار خلال هذه الشهور وهناك منحة سعودية مع بداية الحرب للولايات المتحدة وأوربا تم بموجبها منح البترول السعودي بأسعار مخفضة لمدة 3 أشهر
مثلت فى التقدير الإستراتيجى السقف الزمنى الأعلى للحرب ، وقد كانت تكلفة هذه المنحة 15 مليون ريال سعودى يومياً بإجمالي 13 مليار ريال . الخ ..
أن هدفى من هذه الأرقام ، ليس تقديم حساب للتكلفة الإقتصادية لهذه الحرب ، ولا حتى لتكلفتها الإنسانية والبشرية ، وإنما أن تفتح هذه الأرقام على الجانبين ، بابا واسعاً لدخول سؤال أكبر ، لماذا تم ويتم قذف كل هذا الكمّ من النيران وهذا الكمّ من الأموال فى اليمن ؟
ماذا فى اليمن أو فى مشروع الحرب على اليمن ، يستحق عن جدارة كل ذلك ؟
سوف يكون من قبيل السخرية ، أن يتصور أحد أن جدارة هذا الإستحقاق تتعلق بالدفاع عما يسمى ( الشرعية ) وربما يكون من قبيل التضليل الحديث عن الحديقة الخلفيّة للسعودية ، أو حتى عن مواجهة الدور الإيرانى .
مازال السؤال معلقاً : ماذا فى اليمن أو في مشروع الحرب على اليمن يستحق عن جدارة ذلك كله ؟ أعتقد جازماً أنه إن لم تكن الحرب على اليمن هى قلب مشروع الدخول فى الحقبة الإسرائيلية ، فإنها فى الحد الأدنى رئته ولذلك فإن الجميع لم ينظروا إلى هذه الحرب من منظور إستراتيجى صحيح ، وصغروها إلى مستوى متدن لا يليق مطلقاً ، بأهدافها الإستراتيجية الكبرى ، وإرتباطها بإعادة صياغة الأوزان الإستراتيجية فى الإقليم ، وإحداث تغيير جيواستراتيجى كامل فى بنيته، هو أشد ما يكون ارتباطاً بالدخول فى الحقبة الإسرائيلية الجديدة وأكثر ما يكون اتصالا بخنق قلب الإقليم ، وإعادة تعريف حدوده.
– 7 -يبدو أن السؤال السابق ما يزال معلقّا ، وقد يمر الطريق للإجابة عليه بالنقاط التالية :
أولاً : فى 17 يناير عام 2016 أصدر معهد الأمن القومي الإسرائيلى وثيقة تحت عنوان:
” التهديدات الأمنية فى القرن الواحد والعشرين :
تقدير الموقف الإسرائيلى الإستراتيجى الراهن “.
كان أهم ما فى الوثيقة محددات ما أطلقت عليه “فرص استحواذ اسرائيل على تحسين موقفها وكسب التميز الإستراتيجى والقيام بعمليات اختراق فى العمق العربى” . وقد حددت الوثيقة هذه الفرص فى أربعة عناصر .
1. وجود الصراع السنى الشيعي واندماج اسرائيل فيه.
2. انحدار الهوّية القومية العربية .
3. الفوضى الإقليمية .
4. كسب شركاء على المستوى المحلى مؤقتين أو وكلاء أمنيين رئسيين فى المستقبل . وهذه بالظبط المحاور التي تحركت إسرائيل فوقها ،بقوة دفع أمريكية وغربية ، وبانخراط سعودى وإماراتى كامل .
ثانيا: المتتبع لتطور مفهوم الأمن الإسرائيلى ، خاصة فيما يتعلق بوظيفة اسرائيل ، يمكنه أن يجد أن هذا المفهوم قد انتهى إلى أن تصل فاعلية اسرائيل إلى حدود جميع أجزاء القسم العربى من المحيط الهندى وأن حدود هذا الأمن الإسرائيلى يمتد من البحر المتوسط إلى المحيط الهندى ، وفى القلب منها منطقة الخليج العربى ، وهكذا فقد توسعت اسرائيل فى مفهوم الأمن إلى حدود خارج المصطلح نفسه ، وتم وضع منطقة الخليج داخل دائرة الأمن القومى الإسرائيلى .
ثالثاً : من المؤكد أن المحيط الهندى قد انتزع المكانة الأولى استراتيجياً بما فى ذلك مكانة أوربا فى إطار الصراع الدولى الحالى ، فبؤر التوتر الرئيسية تدور من حوله ، شرقية فى بحر الصين ، غربية فى المتوسط ، وبينهما البؤرة الأسيوية ، وهو فى الوقت نفسه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخليج العربى .
رابعا: جوهرياً ما يتم حالياً ، هو نقل محور الدفاع عن الخليج من المحيط الهندى إلى إسرائيل ، مع ملاحظة أن جمع أمن الخليج وأمن إسرائيل فى سلة واحدة ، قبل السعى لوضعهما فى سلة إسرائيلية واحدة ، سابق على ذلك بسنوات ، فقاعدة ( السيدية ) التى تتمركز فىها الوحدة الجوية الإستكشافية الأمريكية 379 ، بوصفها خط الدفاع الأول ضد إيران ، تتمتع بوظيفة مزدوجة ، حماية الحلفاء فى الخليج ، وحماية إسرائيل فى الوقت نفسه.
خامساً: شكلت السعودية والإمارات قوة بحرية مشتركة تحت اسم ( قوة البحر الأحمر ) لها قوة برية فى شمال ميناء مصوع وقاعدة جوية فى مطار عصب وقاعدة بحرية فى مرسى درما ، وقاعدة ( عصب ) نفسها يتواجد فيها ضباط أمريكيون واسرائيليون وبريطانيون بمشاركة ضباط سعوديين وإماراتيين . وهذه القوة ، هى نواة الجانب الخليجى فى مشروع أكبر لإنشاء منظمة يخطط لإطلالتها فى عام 2018 تحت اسم تحالف البحر الأحمر والخليج العربى ، بمشاركة اسرائيلية بالطبع وهى منظمة ذات طابع أمنى وعسكرى فى إطار مشروع متكامل لا وقت للدخول فى تفاصيله.
سادساً: الهدف الأساسى من السيطرة على موانئ الحديدة – المخا – عدن هو التمهيد لتغيير جيواستراتيجى ، ليس فى اليمن فحسب بل فى المنطقة كلها ، فالأهمية الإستراتيجية للحديدة تكمن فى أنها مركز الموانئ البحرية المقابل لميناء عصب الأرتيرى ، ومن يضع يده عليها يسيطر تماماً على الخط التهامي بطول 500 كم ولذلك فإن الحرب على اليمن التى يتشارك فيها السعوديون والأمريكيون والإسرائيليون والإماراتيون هدفها منذ الوهلة الأولى تفكيك الدولة اليمنية وإعادة بنائها على قاعدة أقاليم ستة ، تتمتع بصلاحيات سيادية مطلقة إلى حد عقد صفقات خارجية لصالح هؤلاء الشركاء تحديداً ، وبالدرجة الأولى إسرائيل .
سابعاً : مشروع الجسر الذى أطلقوا عليه اسم جسر النور لربط عدن بجيبوتى هدفه ربط عدن بالقواعد العسكرية الغربية فى جيبوتى وفى القرن الإفريقى عموماً ، حيث لإثيوبيا الحليف الإستراتيجى للولايات المتحدة الكلمة الفصل ، وهو ما يعطى تفسيرات أعمق لمشروع سد النهضة الأثيوبى .
ثامناً : التفاهمات الإسرائيلية السعودية والإماراتية سابقة على الوضع الراهن بسنوات والوثيقة التى كشف عنها أحد المسؤلين فى حزب ميرتس الإسرائيلي ، تشير بوضوح إلى إتفاق سعودى اسرائيلى بشأن باب المندب ، كما أن هناك مذكرة تفاهم سعودية خاصة بتنظيم الملاحة فى البحر الأحمر منذ عام 2014 ، والمعلومات حول التفاهمات بين السعودية وإسرائيل حول باب المندب وفيرة للغاية ، ومن مصادر أمريكية وعلى سبيل المثال فموقع القرن 21
الأمريكى هو الذى كشف عن لقاءات فى الأردن بين السفيرين السعودى والإسرائيلى تم فيها إبلاغ اسرائيل بموافقة السعودية على منح اسرائيل بناء قاعدة فى باب المندب .
تاسعاً : إسرائيل متورطة حتى النخاع فى الحرب على اليمن منذ البداية فالمعلومات المؤكدة تشير إلى أن القنبلة ( النيوترونية ) التى القيت على جبل ( نقم ) فى 29 مايو 2015 قامت بها طائرتان اسرائيليتان من طراز F.16 ، وأن هناك سرباً من الطائرات الإسرائيلية ، انضم الى العمليات فى اليمن منذ ذلك التوقيت ، وقد شن أول غاراته على معسكر للتدريب فى تعز ، بل أن القناة العاشرة الإسرائيلية هى التى اعترفت علناً بأن إسرائيل شريك رئيسى فى الحرب على اليمن ، وتضمن اعترافها مشاركة بعدد 42 طياراً اسرائيلياً وبعسكريين شاركوا فى قيادة عدة محاور على الأرض ، كان أهمها باب المندب وفى المخا إضافة إلى 70 خبيراً عسكرياً وفنياً وخبراء رادارات مشاركون أنذاك فى إدارة غرف العمليات .
عاشراً : عندما تحدثت فى البداية عن مقلوب حرب أكتوبر ،لم أكن مبالغا لثلاثة أسباب :
الأول: أن الجيش المصري العظيم قد استطاع في هذه الحرب أن يفرض للمرة الأولى فى تاريخ الحروب، نمطاً جديداً للحصار البحرى ، وهو الحصار من بعد ارتكازاً على باب المندب ، وما يجرى هناك يكاد أن يشكل مقلوب هذه الحالة .
الثانى : أن شبة جزيرة سيناء فى إطار هذا الإقليم لا تشكل القاعدة فحسب ولكنها قلبه ولذلك بأن كل ما يجرى من حولها ، يستهدفها بشكل أو بآخر .
الثالث : أن القفل المركزى للبحار والمحيطات بين نصفى الكرة الغربى ونصف الكرة الشرقى يقع فى قناة السويس ، ولذلك فإن التساؤل يكون مشروعاً عن محاولة صنع قفل ومفتاح بديلين فى عدن وباب المندب،
فضلاً عن أن البحار المفتوحة تتحكم فى البحار المغلقة .
– 8 – عندما ثارت مصر فى 30 يونيو ، فإنها دون جدال ، لم تهشم واجهة الإستراتيجية الأمريكية فحسب ، ولكنها أضافت وقوداً هائلاً ومتجدداً لشعلة مواجهة هذه الإستراتيجية ، ولقد دفعت مصر وما تزال ثمناً باهاظاً غير منظوراً ولا محسوبا، للمهمة الثورية التى أنجزتها ،ومع الصمود الكبير الذى أبداه الجيش السورى والجبهات العراقية واليمنية المقاتلة ، فى مواجهة ودحر القوى المضادة و الفصائل الإرهابية ، فقد بدا إن الإستراتيجية رغم كل ما أنتجته من بحيرات دم وتلال ضحايا ، وأنقاض مدن ، عاجزة عن تحقيق نصر إستراتيجي .
أن النصر الإستراتيجى هو ما يبقى عليه الزمن وليس شيئاً واحداً فى هذا المنتوج والخراب وأدواته يمكن أن يكون مزمناً ، أو أن
يكون مما يمكن أن يبقى عليه الزمن ، او يتصالح معه الزمن .
لقد كان من المفترض وفق ترتيبات الإستراتيجية الأمريكية أن تأتى ذكرى وعد بلفور ، وقد حققت المرحلة الرابعة من هذه الحرب نتائجها الحاسمة ، وهو ما لم يتحقق، ولذلك كان لابد من تحقيق نصر يبدو استراتيجياً تكون عوائده المعنوية على الجانبين إيجاباً وسلباً واسعة التأثير ، بل ويرمى وقوداً جديداً لإشعال مزيد من حالة الإنقسام والفوضى ، فضلاً عن القنوط والغضب واليأس ، إضافة إلى أن يكون تحديداً ملزماً لشروط مسبقة لعلاقات طبيعية مع إسرائيل ،خاصة بعد أن فشلت أربع محاولات لإحداث تفجير كبير فى الإقليم كانت أولاها محاولة اعلان كردستان دولة مستقلة ، وكانت ثانيتها
فى مصر بعملية إرهابية كبرى فى جامع ( الرحمة ) فى سيناء ، وكانت ثالثتها بمحاولة إحداث تفجير أكبر بين الفرقاء فى لبنان ،ثم كانت رابعتها بمحاولة إحداث تفجير أوسع بين الحلفاء داخل اليمن ينهى صمود ثلاثة سنوات من المقاومة ويصنع بحراً من الدماء بعد شق العنق قبل ذلك بشهور قليلة ( سبتمبر الماضى ) كانت الولايات المتحدة تفتح قاعدة أمريكية فى صحراء النقب المواجهة لسيناء، وكان الجنرال زفيكا هاميفوتشى هو الذى يؤكد فى خطاب الإفتتاح ، أن القاعدة افتتحتت لتبقى ، وخصصت لها مواردكبيرة ، وأن الهدف من انشائها هو مساعدة اسرائيل فى تشغيل نظام الدمج الصاروخى الإسرائيلى متعدد المستويات ، وكان هناك من علّق على ذلك بالصحف الأمريكية قائلاً ، إن إدارة ترامب
تجري إستدارة كبيرة فى الشرق الأوسط ، وكان هناك غربياً من رأى أن القاعدة جزء من استراتيجية اسرائيلية جديدة ، لإعادة رسم الخرائط السياسية وأشكال التحالف فى الشرق الأوسط . بعدها بقليل كانت أمريكا تعلن الإبقاء على مستويات قوتها العسكرية فى سوريا ، مما أعطى انطباعاً بالإستعداد لشن هجوم أمريكى مباشر لوأد النجاحات السورية ، بعدها بقليل كان الجنرال ( مارك مايلى ) رئيس أركان الجيش الأمريكى يقيم ندوة فى نادى الصحافة فى واشنطن لـ (تصحيح المفاهيم الخاطئة ) كانت أهم المفاهيم التى قام بتصحيحها ، نفى مبدأ الحرب القصيرة ومبدأ الفوز بالحرب من بعد ، ومبدأ أن القوات الخاصة تستطيع كسب المعركة أما الجديد الذى أضافه فهو
– أولاً – أن الولايات المتحدة تحتاج
إلى زيادة حجم جيشها بسبب عدم معرفة ما ستئول إليه الأمور فى المستقبل ، وهو – ثانيا – أن الجيوش ستضطر إلى أن تخوض حروبها فى مناطق حضرية عكس الماضى .
بعدها بقليل كان الكونجرس الأمريكى يلغى قراراً للإدارة السابقة بعدم مشروعية المشاركة الأمريكية فى الحرب على اليمن ، وكان القرار الذى تم الغاؤه يعنى سحب القوات الأمريكية المشاركة ، ووقف دعم الحرب وبالتالى فإن الغاؤه يعنى التدخل المباشر عسكرياً ودعم الحرب .
– 9 -لقد نشأت قبل ذلك على حواف برك الدم ، امبرياليات اقليمية صغرى ، ظنت نفسها ، بالدور التابع ، وبتمويل هدم شقيقاتها أنها اكتسبت حقوق القيادة ، رغم أنها تابعة طوال الوقت ، ورغم أنها جمعت طوال الوقت ودون أن تدرى بين كونها أداة هدم ومشروع فتنة وفوضى ، وأنها فى ذاتها ولذاتها مشروع هدم وفتنة وفوضى فى مرحلة لاحقة ، لكن السقوط المدوى ، فى دوائر متتالية من الفشل ، ولّد لديها شعوراً أكبر بالخوف والتهديد ،ولهذا سرعان ما عمقت من جسورها المفتوحة مع إسرائيل ، متصورة إنها يمكن أن تقتسم ثمرة الإقليم معها ، لكنها دون أن تدرى وضعت نفسها فى محنة إبتزاز عاصف ، كان مظهر الإبتزاز ماليا ، ولكن عمقه لم يكن كذلك ، وإنما يتعلق بالقبول العلنى بإسرائيل وبدمجها فى الإقليم ، ولكن بشروط
إسرائيل ، أى اسرائيل وعاصمتها القدس ، وإسرائيل التى حولت مشروع السلام وحل القضية الفلسطينية ، إلى مشروع لتصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وعلى نحو جذرى . ويبدو من حديث لأكاديمى إسرائيلى كبير هو ( موردخاى كيدار)
عقل مركز بيجن – السادات للدراسات الإستراتيجية فى جامعة بار إيلان ، أن سعار الخوف قد وصل إلى درجة إقتراح اتفاقية
دفاع مشترك مع إسرائيل ، فقد كان رد ( كيدار ) العلنى واضحاً : ” أحذّر من إتفاقية دفاع مشترك مع هذه الدولة ” أما مبرره فكان فاجعاً لماذا ” لأنها لم تحترم اتفاقية الدفاع المشترك مع العراق ، بل وعملت ضدها ” .
ثم ماذا عن السلام ، يقول ( كيدار ) بوضوح أشد : ” السلام بالسلام والتطبيع بالتطبيع ، والإعتراف بالإعتراف ، ولن تدفع إسرائيل ثمناً باهظاً من أجل أى إتفاقية سلام ” ،
ثم كتب ( كيدار ) وثيقة للسلام ذات نقاط عشر ، يعفَ قلمىعن إعادة نسخها .
– 10-لقد قلت أنه مع عدم نجاح الإستراتيجية الأمريكية فى تحقيق نتائجها الحاسمة ، كان لابد من تحقيق نصر يبدو إستراتيجياً تكون عوائده المعنوية واسعة التأثير ، ويرمى وقوداً جديداً لأشعال مزيد من حالة الإنقسام والفوضى فضلاً عن القنوط والغضب واليأس ، إضافة إلى أن يكون تحديداً ملزماً لشروط مسبقة لعلاقات طبيعية مع إسرائيل ، وهكذا التقى عاملان بشكل حاسم ، تحقيق نصر يبدو استراتيجياً بعوائده ، وتمدد امبرياليات صغرى بطموحات ذاتية مريضة ، تريد أن تحقق السبق والقيادة ساعية تحت وطأة خوف غريزى ، لتحصين سلطتها بقبول مذل لكل شروط الإندماج فى المشروع ، متخلّصة من قيود المبادئ والقيم والتاريخ ضاربة عرض الحائط بالنظام الإقليمي العربى ، وضرورات امنه القومى ، وهكذا جاء إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ، صريحاً مدوياً وتعبيراً مباشراً عن التقاء هذين العاملين ، وتعبيراً مباشراً – أيضاً – عن تدشين ( الحقبة الإسرائيلية ) الجديدة تحقيقاً لإحداث إنقلاب إستراتيجى شامل فى الإقليم ، وفى بيئة إقليمية بالغة السوء ، ووسط موازين قوى مختلّة ، وفى قلب عواصف تهديدات بازغة تهب من كل اتجاه ، تبدو الخيارات محدودة، فضلاً عن أنها بالغة الصعوبة ، عالية التكلفة فخيار الحقبة السعودية هو بحكم الطبيعة يوشك على الأفول ، وخيار ( الحقبة الإسرائيلية ) هو بحكم المصالح الوطنية العليا والأمن القومى ، بكل ما يحمله من إنحناء ورضوخ ، لن يكون إلا آلة لإنتاج مزيد من الإنقسام والفوضى ،
أما الخيار الثالث وهو الوقوف بين الخيارين السابقين ، فهو الأكثر صعوبة ، والأعلى تكلفة ، فقد ثبت أن إستراتيجية الملاينة ليست طريقاً لطلب السلامة والأمن . من المؤكد أن ثمة تحالفات وإنقسامات جديدة سوف تسعى إلى أن تعبر عن نفسها ، ولن تكون وقفاً على الأسطح الفوقية للدول القومية فى الإقليم ، ولكنها فوق ذلك ستكون شروخاً بالطول والعرض والعمق، فى هياكلها وأبنيتها ، فقوة الزلزال أكبر من أن يتم إمتصاصها بوسائل تقليدية على غرار مرات سابقة .
غير أن من المؤكد – أيضا- أن خيار الدفاع عن الأمن القومى ، هو الخيار الأبقى والأصلح ، والأقل تكلفة ، رغم أنه يبدو الأصعب والأكثر تكلفة ، ذلك أن بديله لن يكون سوى دخول العرب في حالة احتضار طويلة .