الدكتور محمد سيد احمد | كاتب وباحث مصري
لقد حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم ( 47/ 196 ) لعام 1992 يوم السابع عشر من أكتوبر يوماً عالمياً للقضاء على الفقر, ووضعت هذه المشكلة ضمن الأهداف التنموية في برامجها, وأكدت على ضرورة عمل الدول على خفض حالات الفقر لديها إلى النصف بحلول عام 2015, وقد أعلنت هذا القرار في عام 2000, وقدرت أن 15 عاماً كافية لكي تتخذ الحكومات التدابير والإجراءات اللازمة للوصول إلى تخفيض فقرائها إلى النصف, وبالفعل نجحت بعض الدول في تحقيق ذلك, ومنها على سبيل المثال الصين التي تمكنت من خفض عدد فقرائها للنصف من خلال رفع مستوى معيشة 240 مليون نسمة, وذلك قبل الوصول لعام 2015.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ماذا فعلت مصر منذ إعلان الأمم المتحدة عن اليوم العالمي للقضاء على الفقر في 1992؟ وماذا حققت منذ الإعلان عن خفض حالات الفقر إلى النصف من 2000 وحتى 2015 ؟ والإجابة القاطعة تقول بكل أسف لا شيء !! بل يمكننا القول بقلب مستريح أن سياسات الإصلاح الاقتصادي المزعومة التي انتهجتها الدولة المصرية منذ مطلع التسعينيات تنفيذا لروشتة صندوق النقد الدولي تحت مسمى الخصخصة والتكيف الهيكلي قد عمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وزادت من أعداد الفقراء ولم تحد منهم كما دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة, وبما أن ظاهرة الفقر هى الظاهرة الأكثر خطورة على أمن واستقرار المجتمع المصري في اللحظة الراهنة فيجب أن تتكاتف كل جهود الدولة والمجتمع المدني والأفراد لمواجهتها, وعلينا أن نستلهم من تجاربنا التاريخية في هذا الشأن.
وفي هذا الإطار تأتي ثورة 23 يوليو 1952 التي مازال بعض الكارهين لها ولقائدها يصفها بالانقلاب العسكري في محاولة لتشويهها, لكن هذه المحاولات الفاشلة لا يمكن أن تصمد أمام العلم كثيرا, فمن المعروف والثابت والمستقر والمتفق عليه في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية أن الثورة ” هى إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ” هذا هو جوهر مفهوم الثورة.
لذلك يمكننا التأكيد على أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها, فإذا أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع وأحدثت تغييرا حقيقيا في خريطته الطبقية المختلة وأعادتها إلى توازنها بحيث تبرز الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الدنيا الفقيرة والكادحة والمهمشة نكون هنا أمام ثورة حقيقية, وإذا لم يحدث التغيير الجذري في بنية المجتمع وظلت الخريطة الطبقية المعتلة كما هى فأننا أمام أى شيء آخر غير الثورة.
لذلك نستطيع أن نقول وبضمير مستريح وبعيدا عن أى موقف ايديولوجي غير موضوعي أن ثورة 23 يوليو 1952 هى الثورة الحقيقية الوحيدة حتى اللحظة الراهنة في تاريخ الشعب المصري, لأنها الثورة الوحيدة التي أحدثت تغييرا جذريا في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وهى الثورة الوحيدة في تاريخنا التي انتصرت للفقراء والكادحين والمهمشين ومكنتهم من حقوق المواطنة, وهو ما أدى إلى حدوث حراك اجتماعي صاعد لقطاعات واسعة من أبناء الشرائح الطبقية الدنيا تمكنوا من العبور والصعود والاستقرار بكرامة في فناء الطبقة الوسطى.
فخلال الأيام الأولى لثورة يوليو كانت المواجهة مع القوى الاقتصادية المسيطرة المتمثلة في رموز الاقطاع, فكان صدور قانون الاصلاح الزراعي ضربة قاضية أحدثت تغييرا جذريا في البنية الاجتماعية والاقتصادية انعكست على شكل الخريطة الطبقية للمجتمع المصري, تبعتها ضربات سياسية لتغيير جذري في البنية السياسية التي كانت حكرا على مجموعة من الأحزاب التي يتربع عليها مجموعة من البشوات والبهوات والأفندية بعيدا عن الجماهير الشعبية, فجاءت هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي تنظيما سياسيا جامعا لقوى الشعب العامل, ولأول مرة يتم تمكين جموع المصريين من المشاركة السياسية وإمكانية الصعود للسلطة, فكانت نسبة 50 % للعمال والفلاحين في المجالس المنتخبة تمييزا ايجابيا لظلم تاريخى, ثم نص دستور 1956 على حق المرأة في الترشح للبرلمان خطوة سبقت فيها مصر بريطانيا العظمى التي لم يمكن دستورها المرأة من الترشح إلا في عام 1958, وهنا تغييرا جذريا في البنية السياسية, ثم كان التعليم المجاني ودعم الدولة للعلوم والفنون والثقافة الجماهيرية تغييرا جذريا في البنية الثقافية للمجتمع المصري.
هذا التغيير الجذري في بنية المجتمع المصري الذي انعكس على الخريطة الطبقية المختلة قبل ثورة 23 يوليو 1952 والتي كان يتم فيها الفرز الاجتماعي على قدم وساق حيث الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا, فجاء جمال عبد الناصر بثورته لينحاز للغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء والكادحين والمهمشين, فكانت مجمل سياساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية تصب في صالح هؤلاء لذلك عند رحيله في 28 سبتمبر 1970 كان قد أنجز جزء كبير من مشروعه الوطني وحصل الفقراء والكادحين والمهمشين على حقوق ومكتسبات لم يحصلوا عليها طوال التاريخ المصري, وتم القضاء على الفقر إلى حد كبير.
ثم جاء الرئيس السادات لينقلب على ثورة 23 يوليو عبر ثورة مضادة أحدثت أيضا تغييرا جذريا في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وغيرت الخريطة الطبقية بشكل واضح, لكن للآسف الشديد التغييرات الجديدة كانت سلبية على المستفيدين من مكتسبات ثورة يوليو, فعندما أعلن السادات عن سياسة الانفتاح الاقتصادى كان ذلك تغييرا جذريا أعاد المجتمع المصرى لعملية الفرز الاجتماعي من جديد حيث الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا وبالطبع تختفى الطبقة الوسطى, ثم يعلن الرجل عن التعددية السياسية فتتحول المسألة لسيطرة مجموعة من رجال المال على السلطة, ومع الانفتاح تنتشر قيم الواسطة والمحسوبية والرشوة والغش والفهلوة وينهار التعليم وتختل المنظومة الثقافية.
ومن هنا يتضح أن مكتسبات ثورة 23 يوليو 1952 التي صنعها جمال عبد الناصر بسياساته المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين, قد قضي عليها السادات عبر ثورته المضادة والتي مازالت مستمرة حتى الآن, وإذا ما أردنا تصحيح المسار في اليوم العالمي للقضاء على الفقر فعلينا أن نعود مرة أخرى إلى سياسات منحازة للغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء والكادحين والمهمشين, وهذا بالطبع يتطلب مواجهة مباشرة مع رموز الثورة المضادة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا, اللهم بلغت اللهم فاشهد.