مشروع لبنان الفيدرالي : مقاربة جيوبوليتيكية (١)

الدكتور معين حداد | استاذ جامعي

مقدمة في المنهج

يُستخدم مصطلح الجيوبوليتيك مذ مدة غير يسيرة وعلى نحو واسع في سياقات متعددة ومختلفة او متعارضة، الى درجة جرى معها تفريغ المصطلح من اية دلالات دقيقة او مفيدة في المجال الاستقصائي الجغرافي السياسيي. غير ان للاوساط الاكاديمية رأي آخر، فالجيوبوليتكا تُعنى من حيث المبدأ بنزاع السياسة على الجغرافيا. وهي تتوزع انطلاقا من هذه الصيغة على مدارس متعددة، اميركية روسية … فرنسية اوروبية … ولبنانية (٢) … حيث الجيوبوليتكا تتمثل بمنهج علمي يقضي بمعالجة النزاع السياسي في العالم المعاصر، المنتظم في دول امم، على اراضي يعتبرها كل فريق من الافرقاء المتنازعين انها اراضيه دون غيره وهذا النزاع يمتد من المحاججة والسجال حتى الحرب مرورا بسائر اشكال الخلاف والإختلاف وما شابه.

 إحياء المشروع

يقضي المنهج الجيوبوليتكي، من جملة ما يقضي به، ووفق ما تقدمنا به، بمقارية منظومة الافكار والتصورات التي يملكها كل فريق عن الاراضي المتنازع عليها او المختلف بشأنها، كما يقضي بالكشف عن ما تستبطنه المنظومة المذكورة من توجهات واستهدافات سياسية، وعن امكانية توافُر الشروط الذاتية والموضوعية التي تتيح لهذا الفريق أو ذاك صياغة استراتيجية تتمتع بمستوى معيّن من الفاعلية والقدرة على تنفيذها وتحقيقها على الأرضر جغرافيا وسياسيا .

تشكل منظومة الأفكار والتصورات الفدرالية اللبنانية إحدى المنظومات العديدة التي امتلأ بها الخطاب السياسي في لبنان منذ الاستقلال وحتى اليوم والتي تروُج لمشاريع سياسية متباينة ومتضاربة بشأن لبنان، تحمل عناوين معبّرة، مثل لبنان الفينيقي، او السوري أو لبنان العربي … او الاسلامي … الى غيره من العناوين على صلة بايديولوجيات، لكل منها منطقها واستهدافاتها الخاصة بها .

في هذا السياق يندرج المشروع الفيدرالي الطوائفي والذي يحظى اليوم بدرجة عالية من الإهتمام سلبا وايجابا في الاوساط السياسية والاعلامية، مع العلم انه ليس مشروعا جديدا لأنه طُرح سابقا على يد اكثر من فريق وفي أكثر من مناسبة . طرحته «القوات اللبنانية» على سبيل المثال في الثمانينات من القرن الماضي كما طرحته مجموعات من حزب الكتائب أيضا، غير انه تم التخلي عنه من هذه وتلك فيما بعد باعتباره على الأرجح مناقضا للدستور اللبناني لا سيما المادة ٩٥ منه حيث جاء فيها « على مجلس النواب … اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية … مهمة الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية … «

غير أن عودة المشروع الفيدرالي اليوم، بقوة على يد نخب مستقلة تأمل تشكيل تيار شعبي واسع، ترتبط على ما يبدو بحدة الازمة التي يعيشها اللبنانيون جراء عجزهم عن التفاهم حول بنية نظامهم السياسي من جهة والعلاقات السياسية مع الخارج من جهة أخرى، مع الإشارة الى ان جميع دعاة الفيدرالية سابقا، راهنا، وعلى الأرجح لاحقا على ما يبدو أقله على المدى المنظور هم من المسيحيين، وهم يذكّرون الى هذه الدرجة او تلك باولائك الذين اتجهوا في الماضي وتحت ضغط المواجهات الدموية التي انفجرت إبان الحرب اللبنانية الى التلويح بتقسيم لبنان سياسيا بين المسلمين والمسيحيين . لم يدم التوجه التقسيمي طويلا لأسباب عديدة منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي، انما احد الأسباب الداخلية والذي له علاقة بموضوعنا الراهن هو ان التطور الديموغرافي السلبي نسبيا للمسيحين معطوفا على ما آلت اليه نسب توزعهم الجغرافي إزاء الطوائف الأخرى على الأراضي اللبنانية، صعّب من المضي في الطرح التقسيمي بين مسلم ومسيحي بحيث بدت الفيدرالية في هذا الإطار أكثر ملاءمة مع الواقع الطوائفي في لبنان، متيحة لدعاتها في الوقت نفسه ان يتقدموا بمشروعهم لا كحل لمشكلة الصيغة اللبنانية المزمنة وحسب وانما أيضا بوصفه المشروع الوحيد الذي يحافظ على مقبولية التعايش والمساكنة في إطار من حسن الجوار بين الطوائف في لبنان المتحد، في حين ان الدعوة إلى التقسيم تذهب بدلالاتها نحو تغليب النفور والتنابذ على الوفاق والوئام الذي يرمي اليهما المشروع الفيدرالي على ما يروج له دعاته

 تصورات واستهدافات

لا شك أن الحصرية المسيحية في المشروع الفيدرالي (ومن قبله في المشروع التقسيمي ) يستدعي تساؤلا حول هذه الخاصية نظرا لما ينطوي عليه من توجه نحو احلال تشريع نوع من الانفصال عن الآخرين في مجال الحقوق والواجبات، كما لو ان الممارسة الفعلية بهذا الشأن في إطار الدولة المركزية في ظل النظام القائم تلحق اجحافا متعمدا بالمسيحيين . والحال يتردد بصورة متواترة الحديث في اوساط المسيحيين عن معاناتهم مما تسبب به اتفاق الطائف من ظلم بحقهم بحيث تبدو الفيدرالية وكأنها الوسيلة الملائمة لأزاحة القهر عن كاهلهم، وعوارض القهر كما هو شبه مجمع عليه هي الإستغلال، التهميش، الطغيان الثقافي ( بالمعنى الأنتروبولوجي للثقافة ) التعرض للعنف والعجز البيئي، وجميعها على ما يبدو تجد الى هذا الحد او ذاك سبيلا للرسوخ في الأذهان، حتى انه بات التداول بمقولات تتحدث عن اضطهاد المسيحيين في الشرق ( وفي غير الشرق من العالم الاسلامي ) وتهجيرهم منه، امرا شائعا في اوساطهم . ولكن مٓن من الطوائف اللبنانية على هذا الصعيد لا تعتبر نفسها انها تتعرض في لبنان وفي المحيط لأشنع انواع الاستهدافات والتآمر عليها وعلى وجودها ماديا ومعنويا ؟ ومن هي الطائفة التي لا تشكو في لبنان وفي المحيط من التهجير والقهر، والقتل أو من جرها إلى الإقتتال … أو مما يُدبر لها من مصائر قاتمة ؟ والحال إن مانراه اليوم هو تنافس الطوائف في إظهار ما تكابده من مظلوميات لا في لبنان وحسب وانما في الشرق الاوسط ككل وحتى فيما هو ابعد منه .

لكن مهما كان من امر هذه المزاعم لجهة صحتها او عدم صحتها فمما لا شك فيه ان المشروع الفيدرالي ينطلق من حساسية مسيحية إزاء النظام السياسي القائم في لبنان بعد اتفاق الطائف ويتوجه دعاته إلى التعامل مع الطوائف الأخرى آملين منها ان يقتصر وعيها الجيوطائفي السياسيي على ما تشغله من مساحة جغرافية لا تتعدى حدود لبنان السياسية، بمعنى آخر هم يريدون « عزل مكونات « لبنان إذا جاز التعبير عن مجالاتها الطائفية المحيطة به والتي سنتناولها لاحقا، على أن يقود هذا العزل الى بلورة اسس الحياد ازاء الصراعات الدائرة في المنطقة بإعتبار ان الحياد سيكون إذ ذاك حاصل منطق اليات تحقيق الفيدرالية على الأرض . غير أن ذلك يعيدنا الى مشكلة قديمة ملازمة لدولة لبنان الحديث في ما خص علاقاتها بمحيطها مشكلة متمثلة بالسجالات المستفحلة بين الأفكار الوحدوية من جهة والأفكار الإستقلالية الموسومة بالإنعزالية من قبل خصومها من جهة ثانية، وهي افكار تستبطن النزوع نحو الحياد الذي يسعى إليه المشروع الفيدرالي. هذا وقد جرى التعبير عن هذه « الإنعزالية « ومندرجاتها في الحياد والإنكفاء نحو الداخل في سياقات متعددة وبصيغ مختلفة كان من ابرزها على سبيل المثال لا الحصر ما يتمثل في تصورات، شعارها « لبنان سويسرا الشرق « الذي يركز على فكرة الحياد المعمول بها في سويسرا مدعما بالنظام الرأسمالي المصرفي على الطريقة السويسرية أو تصورات أخرى، شعارها « لبنان ملجأ الأقليات « التي وفدت اليه من المحيط الذي جار عليها لتنعزل فيه وتنكفئ عما يجري خارجه، وغيرها من شعارات مماثلة . غير ان خير تعبير عن الرؤية « الإنعزالية « بهذا المعنى نجدها في الدلالات الجيوبوليتكية التي تنطوي عليها إحدى روائع الفن الغنائي، المتمثلة في قصيدة سعيد عقل « لبنان « التي وضع موسيقاها الأخوان الرحباني وشدت بها فيروز، حيث يُصوّر لبنان الوطن على أنه صخرة تقع لا خارج محيطه وحسب وانما خارج كوكب الأرض برمته، بما يعني النأي عن المحيط الى أبعد ما يكون: « لي صخرة علقت بالنجم أسكنها، طارت بها الكتب قالت تلك لبنان «، وأهل هذا الوطن في حال من الاستنفار الدائم ازاء ما يحيط بهم: « أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم، إذا تطلع نحو السفح عدوان « كما وأنه وطن مكتف بذاته لا حاجة لأهله الى أحد قريبا كان او بعيدا»: من حفنة وشذا أرز كفايتهم، زنودهم إن تقلّ الأرض اوطان. « اما التفكير في وطن ذي اتساع يجاوز لبنان كالوطن العربي أو غيره، فهو باطل، وافتراء وعيب من كبائر العيوب «: هل جنة الله إلا حيثما هنأت، عيناك ! وكل اتساع بعد بهتان».

على المستويين الإقليمي والدولي

ينخرط المشروع الفيدرالي حكما في السجالات الدائرة حول الحياد لكنه يتميز عن غيره في أنه يطرح حلا عمليا وميدانيا قوامه الدعوة الى إعلاء شأن الوعي الجيوطائفي وترجمته عمليا في كانتونات ضمن حدود الدولة اللبنانية، منطلقا من تبنيه للمبدأ القائل بإستحالة اشتراك ابناء الطوائف في الحياة الوطنية الواحدة تأسيسا على أن الأديان والمذاهب المسيسة كما هوالحال في لبنان لا بد وان تبقى على تعارض دائم فيما بينها وهذا التعارض يؤدي فيما يؤدي إليه الى إستقلال هذا الدين او هذا المذهب، في إدارة احوال رعاياه الشخصية، ما يجعل اللبنانيين يتوزعون في مجال حقوقهم وواجباتهم على حزمة قوانين لا متباينة أو مختلفة عن بعضها البعض وحسب وانما متعالية على الدولة اللبنانية أيضا، الامر الذي ينال حكما من سيادة الدولة في امور مواطنيها ويشرّع او يبرر الإختراقات الواسعة لهذه السيادة .

هذا ويُعزى أصل التسييس المذكور الى الإسلام، حيث يُشاع على نحو واسع أن الإسلام لا يحتمل فصل الدين عن الدولة، بمعنى ان المسلمين لا يتقبلون العلمانية التي أفرزتها الحداثة، مع العلم ان ١٥ دولة الأكثرية الساحقة من سكان الواحدة منها هم من المسلمين، ينص الدستور الرسمي فيها على أنها دولة علمانية وهذه الدول هي : تركيا، البانيا، كوسوفو، سنغال، غينينا، بوركينافاسو، مالي، تشاد، اوزبكستان، قيرقستان، تركمستان، كازاخستان، طاجيكستان، اذربيجان وبنغلادش . وإذا اضفنا إليها أندونيسا اكبر دولة اسلامية ديموغرافيا (٣) حيث الدستور ينفي الدين عن الدولة، يكون بمقدونا ان نستنتج أن العلاقة بين الدين والدولة لدى المسلمين ليست مبتوتة لصالح حتمية التلازم بينهما في كل زمان ومكان كما يُشاع.

Exit mobile version