د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
عزّزت خسارة الحزب الجمهوري السيطرة على البيت الأبيض نداءات كبار استراتيجيّيه للبحث عن مكامن الخلل، وحفّزت بعض النخب السياسية والفكرية على المراجعة والسعي لردم الثغرات التي خلّفتها الانتخابات الرئاسية، باعتبارها أضحت تهدّد أركان النظام السياسي برمته.
تعدّ فصلية «فورين أفيرز» من أبرز محطات تلك النخب. وقد أشارت مؤخراً إلى «تفكّك قوة أميركا»، في سياق استعراضها تراجع الهيمنة الأميركية على الصعيد الدولي (25 حزيران/ يونيو 2020)، بينما أشار آخرون إلى اهتزاز الركيزة الديمقراطية لتداول السلطة، وهو أمر لم يستطع بايدن في خطاب التنصيب سوى الإقرار به عندما اضطر إلى الاعتراف بهشاشة الديمقراطية الأميركية.
صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» اعتبرت التطورات التي سبقت مراسم التنصيب، وما رافقها من غياب الرئيس ترامب لتوديع خلفه، والاجراءات الأمنية غير المسبوقة، بأنها حالة تردّ في البلاد «لم تشهد مثيلاً لها منذ 167 عاماً، وحذّرت «فورين أفيرز» من «انقلاب عوامل» القوة الأميركية إلى نقيضها إنْ استمرّ التغاضي عن معالجة الأزمة المركّبة، واعتبرت أنّ واشنطن، في ضوئها، «لا تشهد تراجعاً فحسب، بل تعيش حالة تفكّك أيضاً»، جازمة في خلاصتها بأنّ التراجع على الصعيد الدولي «ليس حلقة مؤقتة، بل وضع دائم».
سنسلّط الضوء في هذه المساحة على إرهاصات الحزب الجمهوري، كنتيجة طبيعية لخسارته البيت الأبيض، لكن مؤشرات الأزمة تنطبق بالتوازي على الحزبين، على الرغم من تحكّم الحزب الديمقراطي راهناً، ولو بأغلبية محدودة، بمفاصل السلطتين التنشريعية والتنفيذية، وذلك كشريكين في الأزمة البنيوية للنظام السياسي الأميركي.
بنية الحزب الجمهوري «التقليدية» قائمة على 3 ركائز من القوى الاجتماعية: تيار المتشدّدين المتديّنين، وقوى تقليدية نافذة في مختلف نواحي الدولة، وصقور التدخل والإنفاق العسكري. مجيء الرئيس ترامب أضاف الركيزة الرابعة والأوسع تمثيلاً من المهمّشين البيض (نشرة «كوك بوليتيكال ريبورت» المستقلة، 8 كانون الثاني/ يناير 2021).
قبل «غزوة الكابيتول»، برزت قوة القيادة التقليدية للحزب ونفوذها الواسع بزعامة نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني في مقارعة صعود الرئيس ترامب وشعبيته العريضة بين قواعد الحزب. جناح تشيني، إن صحّت التسمية، يحظى بدعم وتمويل سخيّ من كبار مموّلي الحزب، وخصوصاً كبريات شركات الأسلحة والنفط، بيد أنّ إفرازات «الغزوة» لن تحتسب مكسباً له بالضرورة، إذ إنّ منسوب غضب القواعد الشعبية وقيادات معتبرة فيه ما زال يتفاعل على خلفية تخلّي تلك النخب عن حماية رئيس جمهوري وتركه عرضة للمحاسبة للمرة الثانية، بصرف النظر عن مصير العملية ومضيها إلى نهايتها.
أظهرت بيانات استطلاعات الرأي أنّ «جناح ترامب» يشكّل أغلبية عددية في الحزب الجمهوري، وآخرها استطلاع أجرته صحيفة «وول ستريت جورنال» عشية الانتخابات الرئاسية، أظهر تأييد نحو 54% من قواعد الحزب الجمهوري للرئيس ترامب، مقابل 38% لقيادات أخرى. وللدلالة أيضاً على عمق نفوذ «جناح ترامب» في تركيبة الحزب، فازت رونا ماكدانيال، مرشحة الرئيس ترامب، بمنصب رئيس اللجنة المركزية للحزب الجمهوري بالتزكية. كما أنّ «جناح ترامب»، في اعتقاد أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الأميركية، تيري مو، باقٍ على المدى الطويل «يعتريه الغضب، وأعداد مؤيّديه كبيرة، ونفوذه السياسي قويّ داخل الحزب الجمهوري».
أما مصير الحزب الجمهوريّ بشكل عام، فيعتمد أيضاً على توجّهات الرئيس ترامب، بحسب الناطق الإعلامي الأسبق للبيت الأبيض آري فلايشر، قائلاً: «مستقبل الحزب ينطوي على حقائق دلّ عليها دونالد ترامب واستثمرها»، أيّ الشرائح العمالية والمهمّشة التي تعتقد أنّ مصالحها تكمن في الالتفاف حول زعيم «يتصدّى للصين ويناصر الحريات الدينية والشخصية، من دون إيعاز للعنف».
ويستطرد فلايشر، الناطق الأسبق بلسان الرئيس جورج بوش الإبن، إنّ وعود ترامب بزيادة أجور العمال نالت صدى واسعاً، إضافة إلى سياساته المناهضة للهجرة غير الشّرعية، وتركيزه على ميّزة «استثنائية الرأسمالية الأميركية» في إنشاء فرص العمل التي ستساعده في المرحلة المقبلة من حضوره السياسي.
على الرغم من خسارة الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة، لكنه استطاع الفوز بأغلبية المجالس التشريعية في الولايات الخمسين، الأمر الذي سيوفر له فرصة ذهبية لإعادة ترسيم توازنات المقاطعات الانتخابية وكسب المزيد من التمثيل في مجلس النواب في الانتخابات النصفية لعام 2022.
من بين مجموع الولايات الخمسين، سيطر الحزب الجمهوري على 27 منصب حاكم للولاية، و 62 مجلساّ تشريعياّ من مجموع 99 مجلساً (مع العلم بأنّ ولاية نبراسكا لديها مجلس تشريعي واحد بدلاً من مجلس نواب ومجلس شيوخ)، مقابل 37 مجلساَ تحت سيطرة الحزب الديمقراطي.
في ولاية بنسلفانيا، على سبيل المثال، كسب الحزب الجمهوري مقاعد إضافية في المجلس التشريعي، وكذلك الأمر في ولاية نورث كارولينا، بينما فاز الحزب الديمقراطي بمقعد يتيم في ولاية تكساس البالغة الأهمية، مقابل احتفظ الحزب الجمهوري بأغلبية المجلس التشريعي ومنصب حاكم الولاية.
في المحصّلة العامة، يسيطر الحزب الجمهوري على أغلبية المجالس التشريعية في الولايات، ويتحكّم الخصم الديمقراطي بالهيئات التشريعية والتنفيذية الاتحادية في واشنطن، ناهيك بتوازنات السلطة القضائية العليا التي تميل بشدة لصالح الحزب الجمهوري.
تجدر الإشارة إلى «استثنائية» الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية على صعيد الحزب الجمهوري، الذي لم يقدّم أو يتبنّى برنامجاً سياسياً في مؤتمره السنوي العام، «وهي المرة الأولى منذ إنشائه قبل 166 عاماً» التي يفشل فيها. وقد اكتفى بإصدار بيان مركزي يؤيد الرئيس ترامب.
تداعيات تصويت مجلس النواب الأميركي على قرار محاكمة ترامب أفرزت كتلة مناهضة مكوّنة من 147 ممثلاً في مجلس النواب لنتائج الانتخابات الرئاسية، وانعكست سلباً على جناح مناهض لها داخل الحزب، ممثلاً بكريمة نائب الرئيس الأسبق والنائب عن ولاية وايومننغ ليز تشيني. وقد عاقبها الحزب الجمهوري بمعارضة نحو 107 من أعضائه في مجلس النواب لمرتبتها الثالثة في قيادة الكتلة الجمهورية، وتوجيه «توبيخ» شديد اللهجة إليها، ما سينعكس سلباً على مستقبلها السياسي، وخصوصاً بعد قرار الحزب ترشيح ممثل منافس عنه للفوز بمقعدها في جولة الانتخابات المقبلة.
الرئيس السابق لمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل أيضاً نال غضب الحزب في ولايته كنتاكي، وتمّ توجيه توبيخ إليه على خلفية تأييده لقرار محاكمة الرئيس ترامب. مصير مجلس النواب سيتحدّد في الانتخابات النصفية في العام المقبل على هدي العرف الأميركي ربما، الذي يعطي أغلبية المقاعد للطرف المنافس لحزب الرئيس. الثابت حتى اللحظة تأييد نحو 74 مليون ناخب للرئيس ترامب، «بعضهم لا يزال يعتقد أنّ الانتخابات سُرقت منه بتواطؤ كبار قادة الحزب الجمهوري عليه»، على الرغم من غياب الدلائل الحسية.
قبل الغوص في مستقبل الحزب الجمهوري، ينبغي التذكير بتقييم أحد استراتيجيّيه ورئيس مجموعة «نورث ستار» لقياس الرأي العام، ويت آيرز، قائلاً: «تنقسم الموازين داخل الحزب إلى قسمين؛ العنصر الشعبوي مقابل العنصر التقليدي في الحكم، وأرجّح تنامي الصراع بينهما للسيطرة على توجهات الحزب المقبلة». وأضاف أنّ ما جرى «يوم 6 كانون الثاني/ يناير شكّل مدخلاً لمعركة الصراع على روحية الحزب في عصر ما بعد الرئيس ترامب».
في ضوء ذلك، يُستبعد الحصول على أغلبية مطلقة في مجلس الشيوخ (67 عضواً) للتصويت على إدانة الرئيس ترامب أو ربما مصادقة السلطة القضائية العليا على استيفاء «حكم الإدانة للنصوص الدستورية». وينظر عدد لا بأس به من أعضاء الحزب الجمهوري بعين القلق إلى مستقبلهم السياسي، في حال انضمامهم للتصويت على الإدانة، لعلمهم بمعاقبة الناخبين لهم في الجولة المقبلة.
لن يغيب ترامب عن الساحة السياسية، كما يعتقد الكثيرون، لا سيما أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في واشنطن ألان ليكتمان، الذي يعتبر مرجعاً في صحة توقعاته لفوز مرشحي الانتخابات الرئاسية لفترة زمنية طويلة. يجزم ليكتمان أنّ رؤية أو تمنّي البعض تلاشي حضور الرئيس ترامب عن المشهد السياسي لا تعززه الوقائع الراهنة إلا في حال إيداعه السجن، لكن الأخير أثبت عمق تأييد قاعدته الشعبية في الانتخابات الاستثنائية لولاية جورجيا، 5 كانون الثاني/ يناير الحالي، رغم خسارة مرشحيْه. أما تصريحاته بالترشح لانتخابات العام 2024، فإنها تعني أنه يطمح للبقاء كعنصر مهيمن على مفاصل الحزب والعنصر الموجّه، ولو حُرِم من الترشح للرئاسة مجدّداً.
يمكن إيجاز رؤى ما سيؤدّي إليه الصّراع داخل الحزب بتوجّهين متصادمين، أحدهما «يأمل» تراخي قبضة الرئيس ترامب على الحزب بعد خروجه من السلطة، مقابل اعتقاد الطرف الآخر بأنه ينبغي إقدام الحزب على اتخاذ خطوة صريحة تكسر قواعد الولاء الشخصي السابقة، بعدما أوصله الرئيس ترامب إلى «حافة الكسر»، وذلك طمعاً في استعادة منسوب المصداقيّة المتدهورة، بحسب حاكم ولاية اوهايو الأسبق عن الحزب الجمهوري جون كيسيك. ويضيف أنه في حال فشل في الحزب التخلي عن ترامب وفتح صفحة جديدة، فمصيره التقوقع على ذاته، وربما التشظي، مع الأخذ بعين الاعتبار تنامي دعوات مؤيدي ترامب لتشكيل حزب منفصل.