مثلث خلدة… فالق الجغرافيا والديمغرافيا ومرتع المخابرات
عامر ملاعب | كاتب وصحفي لبناني
منطقة خلدة و”مثلثها” الى الواجهة من جديد، هي الشوكة التي فقأت عين الاحتلال يوماً عادت في الأيام الماضية لكن بصورة دموية، فما الذي حصل وما هي خلفياته الآنية والتاريخية وما مفاعيل الأمر مستقبلاً؟.
بعد عقود الخمسينات والستينات الماضية يتداول أهالي بلدة عرمون والجوار نكته تقول “من كسب رضا والده أورثه البيت وهوا السطح والأرض في الضيعة ومن عاقبه أورثه أراضٍ محاذية لرمال البحر في خلدة مع الواوية”.
النكته السالفة تدلل على مكانة المنطقة الجنوبية من العاصمة والمحاذية للمطار وعقدة مواصلات مهمة تربط الساحل بالجبل بالعاصمة، وكيف تتحول الجغرافيا من نعمة الى نقمة أو العكس.
هذا المثلث ازدادت أهميته بعد فتح الاوتستراد السريع نحو الجنوب وهو مفترق طرق نحو الجبل والجنوب وبيروت، وشاءت الصدف أن يكون لهذه العشيرة التي حطت رحالها في هذه البقعة تلك الأهمية، وهنا بيت القصيد والمعركة الحقيقية.
في خمسينيات القرن الماضي، وما بعدها، شكل سكان المنطقة ذات الانتماء الدرزي والمسيحي نسيج السكان ببعض البيوت المتناثرة حول نبعي مياه صغيرين، أو كمحطة تجارية للقوافل العابرة، وما زالت بعض الشواهد الأثرية قابعة على سفح الهضبة المطلة على البحر. هي منطقة رعي للماشية شتاءً وصيد السمك على مدار السنة، وبضع محلات تجارية صغيرة بمحاذاة الشاطئ والطريق العام.
على سفح الهضبة حطت طلائع خيم سكان جدد، كانوا يلقبونهم بـ”النوَر”، وازدادت أعدادهم مع الوقت واسستوطنت هذه المجموعة تلك البقعة وتحولت في التسعينات الخيم الى أبنية باطون والسيطرة على الارض، وتكونت بعدها ما اصطلح على تسميتهم بـ”عرب خلدة” ومعهم أيضاً “عرب المسلخ” ويقال أنهم من قبائل تركمانية وليسوا عرباً.
انطلاقة شرارة الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي كانت فرصة هؤلاء للتثبيت والحصول على الارض والهوية معاً، ومن مساعدة وزير الدفاع مجيد ارسلان الى دعم النائب وليد جنبلاط الى تجنيسهم وتوطينهم بمساندة مباشرة من الرئيس رفيق الحريري، حتى باتت اليوم هذه الفئة محور تقاطع وفتيل أزمة كبيرة على نقطة تقاطع استراتيجية في البلد مع عوامل خارجية.
خلدة القديمة
قبل أن تأتي حرب الجبل على “الجزء المسيحي” من هوية خلدة، كانت سرايا الأمير مجيد إرسلان هي الحصن الدرزي في المنطقة. ويومها، درجت عبارة “السبع موجات” التي أطلقها الأمير فيصل، نجل المير مجيد، والتي كان يردّدها على مسامع الكثيرين قائلاً “عدّوا سبع موجات بالبحر… هودي إلنا”، كذلك كانت معادلة المير على اليابسة “معظم الأراضي ملك العائلة”، لكن الظروف تغيّرت فيما بعد.
حينها، كانت خلدة أرض أحراج في معظمها، ولم تكن ذات قيمة، ولم يكن يسكنها إلا بعض العائلات الصغيرة المسيحية، مع وجود “عرب خلدة” على الأطراف. إذاً، لم تكن خلدة مأهولة، لكنها كانت “عرفاً” منطقة درزية ـــ مسيحية، كانت للمسيحيين فيها مساحات كبيرة من الأراضي، فيما البقية للمير ولملاكين من الطائفة الدرزية.
خلال فترة الحرب اللبنانية، بدأت المرحلة الأولى من التغييرات، لجأ إليها الهاربون من مجزرة الكرنتينا ـــ المدوّر، وأنشأوا الخيم هناك، ليؤويهم مطلع الثمانينيات أول مشروع سكني في قلب المنطقة سمّي ولا يزال مشروع “نائل السكني” كمشروع سني، وبعد حصار بيروت في عام 1982، وتدمير الوسط التجاري هربت “البورجوازية السنية” إلى المنطقة، بورجوازية طامعة بالهدوء وأسعار الشقق.
هكذا، بدأت تدبّ الحركة شيئاً فشيئاً في المنطقة. وبعد سنوات عدة، بدأت حركة البناء تنشط، يومها، بدأت تتكون “تجميعة”، من العمارات المخالفة لقوانين البناء ومن سكان من مختلف الجهات، وانفجرت فقاعة غابة “بنايات” لا تمتلك الحد الأدنى من الجمالية او الأمان العمراني والتنظيم المديني.
مع حركة البناء السريع، كان “البيروتي” هو الأساس بالتوازي مع توافد الشيعي، وبعض الأقليات من الفئات الأخرى من الدروز والمسيحيين من أصحاب الأرض السابقين، وكان مجمع “نسيم البحر” اللبنة الأولى لتواجد شيعي فعلي في المنطقة.
إدارياً خلدة تنقسم الى جزئين: الأعلى منها يتبع بلدية عرمون بينما في الخط الموازي للشاطئ حتى مئات الأمتار صعوداً تتبع لبلدية الشويفات.
خلدة الآن
خلدة الآن هي مساحة مفتوحة لكل راغب وقاصد، وبدلاً من أن تتوسع مدينة بيروت جنوباً بتنوع وانفتاح مديني، ها هي تتحول الى فضاء ريفي وقبلي وعشائري مقيت يعيد “المثلث” وحوضه السكني قروناً الى الوراء.
الصراع على السطح يظهر بوجهه المذهبي، سني شيعي، ولكن في الحقيقة يختزن هذا التشكيل الهجين، بين قرية ومدينة، قنابل موقوتة ستنفجر يوماً ولا ينقصها الا صاعق وشرارة، من حقيقة الملكيات العقارية الى الفوارق الطبقية والمالية بين سكان الأحياء الى الفوضى الاجتماعية الضاربة في أزقة بشعة بين العمارات الجديدة الى غياب الخدمات المحلية والطبيعية من كهرباء ومياه وصرف صحي واصلاح الطرقات الفرعية وغياب المساحات الخضراء وغيرها.
إعادة إعمار وسط بيروت ترافق مع مشاريع موازية، مثل مشروع أليسار، القاضي بإزالة منطقة الاوزاعي وتوسيع مداخل بيروت الجنوبية وغيرها، ما يعني تغييراً ديمغرافياً فسارع الرئيس رفيق الحريري الى تجنيس عرب خلدة ودفع مبالغ مالية لهم كتعويضات عن فتح الاوتوستراد الساحلي وازالة خيمهم.
إذن، نشأت أحياء لعرب خلدة ونمت الأحياء الأخرى كالفطر واجتاحت العشوائيات السفح والوديان المحيطة، ومعها نمت الكثير من المشاكل الاجتماعية وتكاثرت الأزمات، وبغض النظر عن تفاصيل المشكلة التي وقعت مع صاحب مبنى “شبلي” وما سبقها ورافقها من وضع شروط على أصحاب هذا المشروع وعروض مغرية لبيعه، ومن ثم اتهامه بجريمة قتل زاهر غصن، الا أن المحطة الأخطر كانت باستهداف موكب المشيّعين وبما يزيد عن جريمة قتل علي شبلي في حفل زفافٍ وعلى مرأى من جمهور واسع.
الاعتداء والكمين الذي استهدف موكب التشييع، ترافق مع رعونة وولدنة سياسية من تيار المستقبل وقوى سياسية فاعلة وعدم تقدير الموقف وأبعاده الأخلاقية بالدرجة الأولى وعلى مستقبل العيش المشترك في لبنان، مقابل هدوء وانضباط شديد جداً لحزب الله وجمهوره.
بناءً على ما تقدم علينا إعادة طرح مجموعة من الأسئلة والملفات على طاولة البحث، ويمكن تلخيصها على الشكل التالي:
1- لا يمكن لهذه المجموعة المتواجدة على هذا التقاطع الخطر وفي ظروف غاية بالخطورة أن تحدد هوية ودور السكان، وبمعنى أوضح لا يمكن لعرب خلدة أن يقرروا كيفية وجود الشيعة من عدمه هنا وهل هو حضورٌ طارئ على المنطقة أم لا.
2- بتحصيلٍ حاصل فإنه بعد الحادثة وهولها هناك معادلات سيعاد بحثها مع عرب خلدة:
أ- مشكلة الأراضي التي يقيمون عليها.
ب- حدود الاستغلال السياسي لموقعهم من قبل عدد من الافرقاء اللبنانين.
ج- دور وحدود فصائل سورية معارضة في هذه الحوادث، لا بل إقامة عدد من كوادرها في هذه البقعة.
د- نهاية فترة السماح السابقة، يجب ضبضبة قطاع الطرق عن الخط الساحلي بأي ثمن.
3- وضع حد لدور التنظيمات التكفيرية وعلى رأسهم المدعو عمر غصن، وهو المحرض الأكبر في كل الأزمات التي تمر بخلدة وقطع الطريق وفرض خوات على المارّة.
4- التنبه لدور أجهزة المخابرات المحلية والاقليمية والعالمية العابثة في هذه المنطقة وتستغل كل الشوائب.
أخيراً، خلدة التي سطرت في غابر الأزمان الملاحم وكانت أسطورة بمواجهة العدو الصهيوني في 1982، من العار أن تتحول الى نقطة قطع بين مكونات الوطن، وأن تكون شوكة في خاصرة طريق صيدا والجنوب ومدخل بيروت، هذا الزمن يجب أن يكون قد انتهى الى غير رجعة.
بالمقابل على كل القوى السياسية والبلدية الفاعلة في المنطقة أن تعير هذه المنطقة قليلاً من الاهتمام وكثيراً من العناية، والا نحن أمام “بوسطة عين الرمانة” في خلدة.
والسؤال الأهم والأخطر: ماذا لو لم يتريّث حزب الله ويضبط جمهوره؟