قاسم عز الدين – كاتب لبناني في الميادين نت وباحث في الشؤون الدولية والإقليمية
ما هي الديموقراطية الأميركية الهشّة ؟ بقلم : قاسم عزالدين
حرَم الديموقراطية الأميركية “الكابيتول” الذي أحرَقه الجيش الإنكليزي في العام 1814، شيّده جورج واشنطن في العام 1793 في أعقاب واقعة التمرّد العسكري الذي شنّه الجنود في العام 1783 ضد مقرّ الكونغرس (مؤتمر الكونفدرالية) الذي أُقيم أصلاً في فيلادلفيا.
نقل مقرّ الكونغرس إلى واشنطن هو نتيجة فشل “أحد الآباء المؤسسين”، توماس جيفرسون، في دعوة الميليشيات البيضاء للقضاء على تمرّد الجنود المطالبين بالأجور، ما دفعه إلى افتعال مهابة مقدّسة تصبغ مقرّ الكونغرس على تلّة “كابتولين هيل” في واشنطن، تشبّهاً بإحدى تلال روما السبع لمعبد جوبتير.
جورج واشنطن الذي خلَف جيفرسون في الرئاسة، اصطنع قدسية لمقرّ الكونغرس أكثر انسجاماً مع معتقدات المستوطنين البيض، حين أقام طقوس الحجر الأساس بالزي الماسوني مع ثمانية من “الأحبار” الكبار يوم 18 أيلول/سبتمبر 1793.
من وراء الطقس المهيب في “الكابيتول”، كان جورج واشنطن يستهدف اصطناع تقديس فكرة الديموقراطية الأميركية في حرَمها المبجّل. وقد أُخذَت هذه السردية على محمل المعتقدات الدينية بأنَّ النظام الأميركي رسالة مقدّسة بناء على ديموقراطية بدأت بصناعتها الآلهة، وما يزال يباركها القساوسة والكنائس الأنكليكانية (عظة القسّ في الكابيتول بعد المصادقة على انتخاب بايدن).
التقديس المفتعَل للديموقراطية الأميركية يلفّ كلّ جوانبها الإجرائية العملية البسيطة، بدءاً من المحافظة على المدّة الزمنية لانتخاب الرئيس بين 3 تشرين الثاني/نوفمبر و20 كانون الثاني/يناير، وهي المدّة الزمنية التي كان يستغرقها نقل نتائج الولايات على عربات الأحصنة إلى مقرّ الكونغرس.
يشمل تقديس الطقوس، في ما يشمل، ما يُعرف بـ”ديموقراطية الدولار” (وثائقي سيلفان باك على قناة “آرتي” الأوروبية في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، إذ تجاوزت نفقات الانتخابات الرئاسية 13,8 مليار دولار، وتدلّ، في ما تدلّ، على أنّ اللعبة الانتخابية الأميركية قوامها مراكز النفوذ ولوبيات المصالح المالية والتجارية.
ترامب الّذي دعا في مناظرته مع بايدن مجموعةَ “برود بويز” الفاشية (الأولاد الفخورون) إلى الاستعداد للمواجهة، هو حالة فجّة ناتئة عن النظام العنصري الأميركي نفسه، وهو إذ يمثّل مع إدارته (بومبيو، تيد كروز، ألبيرت أوبراين…) أميركا العميقة الأكثر توحّشاً وعنصرية من الدولة الأميركية، إلا أنّ الدولة الأميركية توجّه أصابع الاتهام إلى نتوءات مجتمعها الفجّة، كميليشيات “كوكلوكس كلاين” وغيرها العشرات، من أجل تسويق ديموقراطيتها، وهي “أشدّ الصادرات الأميركية فتكاً”، بحسب المؤلّف وليام فروم.
وليس الأمر حديثاً، فمنذ ما سمي “الثورة الأميركيّة” والاستقلال في العام 1783، سوّق “الآباء المؤسّسون” دستور 1787 ككتاب مقدّس. وفي هذا السياق، نشر ألكسيس دو توكفيل في العام 1835 كتابه “في الديموقراطية الأميركية” لتسويقها.
وما تزال مؤلّفاته مرجعاً لتبجيل نظام تأسّس على تفوّق العرق الأبيض في إبادة شعوب قارتي أفريقيا والأميركيتين، كما جرى إقراره في الدستور الأميركي، وما يزال قائماً إلى اليوم، فتوكفيل الذي شدّ من عزيمة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يأخذ بفكرة الديموقراطية الأميركية التي تبرع في تغطية ذئبية أميركا العنصرية.
في هذا الإطار، عظّم مريدو الديموقراطية الأميركية ما سمّوه “إعلان إبراهام لنكولن لتحرير العبيد” في العام 1863، دلالة على إنسانية النظام الأميركي وأيقونة الحرّية، لكن إعلان لنكولن هو مجرّد تدبير عسكري لجذب الأفارقة العبيد من الولايات الجنوبية المنفصلة عن الاتحاد إلى القتال في الجيش الاتحادي والبحرية الأميركية.
وما يزال إرث العبوديّة والعنصريّة البيضاء يتحكّم بالنموذج الأميركيّ في مفاصله الأساس التي تديرها الدولة الأميركية في سياستها الداخلية وفي سياستها الخارجية، فلو كانت واقعة “الكابيتول” تظاهرة سلمية دعت إليها منظّمة “حياة السود مهمّة”، لقمعتها الشرطة بالدبابات قبل وصولها إلى الباحة. والدلائل على عنصرية الدولة الأميركية في العالم، ولا سيّما فلسطين والمنطقة، يندى لها الجبين.
تنفجر الفاشية والعنصرية في أميركا وفي الدول الغربية الأخرى نتيجة انحدار الدولة وتراجع صدقيتها في تسويق الديموقراطية المزعومة، وهي بدورها نتيجة انحدار دور الدولة وتراجعها في موازين القوى الدولية.
لكنَّ هذه التحوّلات التي تكشف عمق العبوديّة والإرث الاستعماريّ في الدول الغربيّة، تفتح الآفاق أمام حراك “الملوّنين” وأصول العالم الثالث في هذه المجتمعات، فالتوقعات تشير إلى أن اللاتينيين (هاسبانيك) سيحتلّون الموقع الحاسم في خريطة أميركا قريباً (أكثر من 56 مليوناً)، كما غيّروا وجه جورجيا الجمهورية، ويضعون إدارة بايدن أمام امتحان تغيير أميركا الإمبرياليّة والعنصريّة.
Aa