العميد الدكتور أمين حطيط | استاذ جامعي وباحث إستراتيجي .
في مشهد غير مسبوق اشتعلت النيران على متن سفينة «إسرائيلية» كانت قد جهّزت بحمولتها في مرفأ الدمام السعودي وتوجّهت منه إلى سنغافورة في رحلة تجارية في الظاهر وقد تكون ترمي إلى غير التجارة في الباطن، إلا أنّ الانفجار الذي حصل على متنها، وأحدث الحريق فيها وفي ما تحمل من حمولة، أحدث خللاً في برنامجها واستدعى إعادة النظر بالرحلة وطرح أسئلة كبرى على كلّ المختصين بالشأن أو ذوي العلاقة بالسفينة أو بأمن المنطقة التي حصل فيها الانفجار.
وقبل طرح الأسئلة والإجابة عليها، نذكر بأنّ السعودية لم توقّع أو لنقل إنها لم تعلن رسمياً أنها وقّعت اتفاق صلح مع العدو «الإسرائيلي» ولم تطلق رسمياً وعلانية مسار ما يسمّيه العدو الصهيوني «التطبيع»، وأنّ الصفة الرسمية لـ «إسرائيل» من الجهة السعودية وعملاً بالمواثيق والأنظمة العربية النافذة، أنّ هذه الصفة هي العداء، ما يعني أنّ دخول سفينة «إسرائيلية» إلى ميناء سعودي يُعتبر مخالفاً أو مناقضاً لحالة العداء تلك ويوحي بشكل يقيني بأنّ العلاقة الحقيقيّة بين الكيانين قائمة على غير العداء طبعاً، علاقة تميّزها العلاقات السريّة الحميميّة التي بدأت مع عبد العزيز بن سعود قبل إنشاء الكيان الصهيونيّ واستمرّت مع خلفائه في الحكم ووصلت إلى ذروتها اليوم مع الحاكم الفعليّ للسعودية محمد بن سلمان، وأنّ هذه العلاقة في حقيقتها وفعاليتها تتخطى كلّ المستويات والسقوف التي بلغتها علاقة العدو «الإسرائيلي» بالدول العربية الأخرى التي وقعت معه معاهدات صلح واستسلام. ومن هذا المنظور جاء الانفجار ليكشف وجهاً من وجوه التعاون والعمل المشترك بين الطرفين وبوضوح.
أما عن الانفجار بذاته، فإنّ أحداً من الدول أو الكيانات أو المنظمات أعلن شيئاً عن صلته به أو مسؤوليته عنه، كما أنّ الإعلان عن الانفجار كخبر من كيان العدو «الإسرائيلي» جاء بالتقسيط وتدرّجاً نقطة نقطة، فمن نفي «إسرائيل» علمها بالانفجار كلياً ثم نفيها علمها بهوية السفينة، إلى نفيها العلم بحقيقة ما حصل من انفجار، إلى الإقرار بأنّ السفينة هي لـ «إسرائيل»، ثم القول بأنها تعرّضت لانفجار من دون أن تعرض لأسبابه إلى خروج نتنياهو متهماً إيران بأنها وراء الانفجار وصولاً إلى تحديد «إسرائيل» كيفية وقوع الحادث وتحميل طهران المسؤولية عنه مع قول وزير «إسرائيلي» بأنّ «إيران استخدمت ألغاماً بحرية لضرب سفينة «إسرائيلية» الأسبوع الماضي ثم قيام «إسرائيل» بالعدوان على ريف دمشق الجنوبيّ مدّعية أنها تنتقم من إيران بسبب تفجيرها للسفينة «الإسرائيلية» في خليج عُمان، كلّ ذلك يرسم مساراً يعكس ظاهراً على الأقلّ مدى التخبّط «الإسرائيلي» في التعامل مع الحادث والإرباك في التصرف، الحادث الذي لم تجد «إسرائيل» علاجاً أولياً له سوى تنفيذ حلقة من سلسلة اعتداءاتها على سورية وادّعائها بأنها تعمل ضدّ «الوجود الإيراني فيها».
بيد أنه وتخطياً للإرباك الصهيوني هذا، أو عدم حصر الموضوع فيه، فإنّ أسئلة مهمّة لا بدّ من طرحها انطلاقاً من الواقعة التي حصلت، أسئلة تحدّد الإجابة عليها ملامح المرحلة الجديدة التي قد تدخلها المنطقة عامة وخطوط النقل الدوليّة البحرية التي تمرّ فيها ومستقبل تلك الحركة على تلك الخطوط بشكل خاص.
والسؤال الأول يتمحور حول الفاعل ومَن يقف خلف الانفجار؟ وأهداف الفاعل وما رمى إليه؟ والثاني طبيعة الانفجار وكيف حصل؟ والثالث يرتبط بمستقبل الأمن في الخليج ومنه إلى بحر عُمان، حيث خطوط النقل الاستراتيجيّ من حيث البضاعة (النفط) أو من حيث الموقع الجغرافيّ لكونه حلقة الوصل بالشرقين الأوسط والأقصى.
وفي الإجابة عن السؤال الأول ننطلق من الاتهام «الإسرائيلي» لإيران، ونستمع إلى الردّ الإيرانيّ الفوريّ عليه، حيث إنّ الخارجيّة الإيرانيّة أعلنت وفي موقف رسميّ أنّ «اتهام نتنياهو بشأن السفينة «الإسرائيلية» غير صحيح وأمن الخليج الفارسي مهمّ لطهران، وهنا نقول إنّ تنصّل إيران من المسؤولية يخفف من خطورة المفاعيل التي كانت تريد أحداثها فيما لو كانت هي الفاعل ما يقودنا في سياق لبحث عن الفاعل إلى طرح 3 فرضيات يمكن لإحداها أن تجيب على السؤال: أولها أن يكون الانفجار نتج اثر حادث عارض على متن السفينة، والثاني أن يكون الانفجار نتيجة عمل معادٍ جاء من خارج السفينة، والثالث أن تكون «إسرائيل» هي نفسها نفذت العملية لإنتاج بيئة تلائمها لإنشاء منظومة أمن في الخليج تسعى إلى إنشائها بقيادتها وهي صرّحت أكثر من مرة في معرض الحديث عن اتفاقات ابراهام عن نيتها في إنشائها وضرورتها.
بيد أنه ومع عدم إمكانية الوصول إلى تحقيق جدي يحدّد طبيعة الانفجار وسببه إلا ما تسمح به «إسرائيل» ولأنّ «إسرائيل» صاحبة مصلحة في اتهام إيران من أجل الوصول للأهداف التي ذكرت، فإننا نقول بأنّ الانفجار إذا كان بيد خارجية (أيّ ليس حادثاً عارضاً ولا عملية «إسرائيلية» مدبّرة) ومع نفي إيران صلتها بالموضوع حرصاً منها على أمن الخليج وطرق المواصلات فيه، يكون من المهمّ التفكير بطرف ثالث بدأ يتحرك في المنطقة إثر اتفاقات «التطبيع» ليبلغ أطراف التطبيع أنّ اتفاقات أبراهام ستكون مدخلاً للإخلال بأمن المنطقة وليست عنصراً في استقرارها، كما أنّ هذه النتيجة يمكن الأخذ بها سواء كانت «إسرائيل» هي الفاعل أم سواها، ويمكن القول مع هذا التصوّر «التطبيع مع العدو مُفسِدٌ لأمن المنطقة».
أما عن مستقبل خطوط المواصلات البحرية في المنطقة، فإنّ التفجير بذاته، أو إذا تكرّر بصيغ أخرى من شأنه أن يطرح مسألة أمن المواصلات البحرية في المنطقة، وكيف سيكون التصرف من قبل الأطراف ذات الصلة بالموضوع فهل تتلقى دول الخليج الرسالة الأوليّة وتكبح جماح التطبيع خاصة في ما تقوم به الإمارات علانية وبوقاحة متحدّية مشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين في اندفاعاتها نحو علاقات مع العدو؟ أم تقع تلك الدول في الفخ «الإسرائيلي» وتسارع إلى بلورة منظومة أمنية في الخليج تقودها «إسرائيل» وتروّج لها تحت عنوان حماية أمن المنطقة وطرق المواصلات فيها؟
إنّ انفجار السفينة التي يملكها شخص من كيان العدو، وأياً كان الفاعل، يمكن أن يؤشر إلى مرحلة جديدة على صعيد الأمن في المنطقة في فترة زمنية دقيقة تراجع فيها أميركا استراتيجيتها في الشرق الأوسط وتتجه للتسلل منه باتجاه الشرق الأقصى. ولهذا أرى أخذ المسألة من قبل أصحاب العلاقة بأمن الخليج على أقصى درجات الجدية ولا يكون تبسيط للموضوع من جهة كما لا يكون إهمال لما يحضّر من جهة أخرى. وهنا ستجد إيران نفسها مسؤولة عن الدفاع عن شواطئها وخطوط مواصلاتها البحرية على جانبي مضيق هرمز وكامل الخليج، وتكون سلسلة المناورات البحرية التي سبق لها وأجرتها في المنطقة مفيدة للبناء عليها في هذا الإطار. ويبقى أن تفهم الدول العربية في الخليج أنّ إدخال العدو إلى الدار هو بمثابة إضرام النار في حجراته.