سمير الحسن | كاتب وباحث لبناني
لم يكد يجف حبر القمة الأميركية – الروسية في جنيف بين الرئيسين الأميركي جو بادين والروسي فلاديمير بوتين، حتى إنطوت صفحة العالم الأحادي القطب وإنفتحت صفحة جديدة سيتعرف العالم على مضامينها في السنوات المقبلة.
لم تأتِ قمة جنيف إلا تتويجاً لمسار صراعي تمكنت فيه روسيا من إقتحام العديد من الساحات الدولية، وأبرزها ساحة الحرب السورية؛ ساحة الحرب ضد الإرهاب؛ الملف النووي؛ القطب الشمالي؛ القواعد الأطلسية في أوروبا، ساحة الغاز والطاقة، وساحة الصراع السيبراني البالغة التعقيد.
لم تبلغ التوترات الأميركية – الروسية، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 المستوى الذي بلغته خلال العقدين الأخيرين اللذين شهدا تولي بوتين سدة الكرملين.. وفي صلب برنامجه إعادة روسيا إلى عز الدور السوفياتي الذي شهده العالم عقب الحرب العالمية الثانية. لم يخف بوتين طموحاته السوفياتية، لكن بمضمون سياسي وإقتصادي جديد. لغة المصالح لا لغة العقائدية. ضمّن برامجه “النظرية الرابعة” لألكسندر دوغين، التي تعتبر تخفيفاً للتدابير الاشتراكية المتشددة، ودحضاً للرأسمالية الليبرالية المنفلشة، ولا يمكن اختصارها بكلمات قليلة، لكنها تتموضع في موضع مخالف للنظم الرأسمالية.
ولئن قمة بايدن – بوتين لم تكن الأولى من نوعها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن سابقاتها لم تتسم، قبيل إنعقادها، بمنسوب المجابهة مع الغرب، كما بلغته مؤخراً، وتحديداً مع الولايات المتحدة الأميركية، فقد سبقت القمة الأخيرة تصريحات متشنجة متبادلة، بلغت حد التجريح الشخصي الذي بادر إليه بايدن بإطلاق صفات غير مألوفة في الخطاب الديبلوماسي الدولي على نظيره الروسي، ولم يكن رد بوتين أقل قساوة وإن خلا من استخدام عبارات خرجت عن سياق اللياقات الديبلوماسية المعتمدة.
هنا، من المفيد العودة إلى التاريخ غير البعيد. قبيل سقوط الاتحاد السوفياتي، عقدت أكثر من قمة أميركية – روسية، منها قمة رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف تحت عنوان “بداية جديدة” عام 1985، وجدد فيها الرئيسان الحوار السوفياتي الأميركي في جنيف ووضعا البلدين على سكة الانفراج. وعندما تسلم بوريس يلتسين السلطة (1991 ـ 1999)، لم تعد القمم الروسية – الأميركية تتسم بطابع صراعي، بقدر ما اتخذت منحى هادئاً، في ظل إنكفاء الدور الروسي وإستحواذ الولايات المتحدة على قيادة العالم وحدها.
عبرت قمة بايدن ـ بوتين عن عودة روسيا بقوة إلى الساحة العالمية، وأشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها لم تعد تستطيع أن تفعل ما تشاء في العالم على غرار ما قامت به في أفغانستان، العراق وساحات أخرى وقتذاك، لم يعد لروسيا القدرة على التحدث بلغة ندية قوية.
بات الأميركي سيد العالم، والعالم صار أحادي القطب. هذه الحقبة شهدت قمماً روسية أميركية بعنوان “الصداقة” وأبرزها تلك التي جمعت الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) ببوريس يلتسين سنة 1992، على أرض الولايات المتحدة. عملياً، كرّس رئيسا الدولتين التقارب بينهما ببدء تطبيق اتفاقية نزع السلاح النووي الاستراتيجي، وأصبحت الحرب الباردة طي النسيان.
ولدى وصول الديموقراطي بيل كلينتون إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير 1993 وقبل استقالة بوريس يلتسين من الكرملين في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999، بنى علاقات وثيقة نسجت العديد من فصولها في ثماني قمم أميركية – روسية على مدى ولايتي كلينتون. في هذه الفترة، اتسمت العلاقات الأميركية الروسية بالهدوء، إلى أن وصل بوتين إلى سدة الرئاسة، ومع وصوله، إختار إعادة بناء شخصية روسية قوية، ما جعل عناصر الحرب الباردة تلوح في الأفق مُجدداً.
ومثلما إختلفت قمم غورباتشوف ويلتسين مع الرؤساء الأميركيين اختلافا كبيرا عما سبقها، ولا سيما منها قمة أيزنهاور ـ خروتشوف 1959، وكينيدي ـ خروتشوف 1961 عقب أزمة الصواريخ الكوبية، وقمة نيكسون ـ بريجنيف 1972، فإن قمة بايدن – بوتين الأخيرة، يمكن اعتبارها واحدة من أكثر المحطات مفصلية بين البلدين، ليس تبعاً لمضمون المحادثات، بل ربطاً بتداعياتها المفتوحة على مصراعيها دولياً، وأبرزها اتفاقية الحد من الأسلحة المتوسطة، نشر القواعد الأطلسية في أوروبا، التسلح الفضائي، الملف النووي، الممرات المائية، الغاز، ملفات الشرق الأوسط، القرم، أوكرانيا، أفغانستان، أولوية التفرغ للصين الحليف الاستراتيجي لروسيا، وغيرها العديد من الملفات.
لئن إنتهت قمة بوتين – بايدن إلى اتفاق الجانبين على بعض القضايا الكبرى مثل عدم اللجوء لاستخدام السلاح النووي، لكنها عبرت عن عودة روسيا بقوة إلى الساحة العالمية، وأشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها لم تعد تستطيع أن تفعل ما تشاء في العالم على غرار ما قامت به في أفغانستان، العراق وساحات أخرى. لو نظرنا إلى الأبعاد الخطيرة لحادثة إعتراض الجيش الروسي للمدمرة الإنكليزية “ديفندر” في البحر الأسود، وإذا دققنا في خطابات المسؤولين الروس في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي، يمكن الإستنتاج أن ما بعد قمة جنيف.. هو تدحرج يضع العالم أمام حقيقة لا مفر منها: نعي العالم الأحادي القطب.