ايهاب زكي | كاتب وباحث فلسطيني
عام 1957 تم تأسيس ما سيُعرف بجهاز “السافاك” في دولة الشاه بإيران، عبر دمج جهازي الاستخبارات العسكرية والمباحث الجنائية. وقد أنشئ بدعمٍ أمريكيٍ ومساعداتٍ “إسرائيلية”. وقد كُتب مقالٌ شهير في ذات العام بعنوان “ماذا يريد الشعب؟”، فكان أن استدعى قسم المطبوعات في “السافاك” كاتب المقال، وقال الضابط للكاتب “لقد علق رئيسنا الجنرال تيمور بختيار على مقالك، بأن أمرنا بالإرسال في طلبك، لنخبرك بأنّ الشعب قد مات”. وفي بداية العام 1978 كُتب في جريدة إطلاعات مقال باسمٍ مستعار، بقلم أحد أشد الكُتاب الموالين للشاه وهو داريوش همايون، بعنوان “إيران والاستعمار الأحمر والاستعمار الأسود”، ويقصد الشيوعيين والإسلاميين، وقد اتهم الكاتب الإمام الخميني(قدس) في مقاله بالعمالة للغرب وشكك في أصوله الإيرانية واستهزأ بمجالس العزاء، ولكن كان ردّ الفعل الشعبي على هذا التجنّي السافر عكسياً، فقد اندلعت الاحتجاجات والمظاهرات بشكلٍ موسع، وعاد هاجس الإمام الخميني لمطاردة الشاه حتى غادر إيران للمرة الأخيرة، حيث لم تكن مغادرته انتصاراً للثورة الإسلامية في إيران فحسب، بل كانت تغييراً إجبارياً لمسار التاريخ وخفايا المستقبل.
تعمدت الإتيان بهذين المقالين كمثلين على العقلية التي كانت تحكم الحاضر حينها، وعلى العقلية التي نُحتت في الغرف السوداء لتحكم المستقبل في إيران والعالم العربي، فالشعوب ميتة في تلك العقلية، وكل من يحاول منها أن يعود للحياة، من خلال التمرد على سيطرة الاستعمار، سيتم اتهامه بالعمالة للاستعمار من الجالسين في أحذية الاستعمار. وهذه السياسة لم تختلف كثيراً، فنحن وإن لم نشهد تلك الأحداث بحكم السن، فإننا نرى اليوم بأمّ العين تجسيداً حياً لها، فنشهد مثلاً من يتعبدون في المحراب “الإسرائيلي”، يتهمون حزب الله بالسعي للتطبيع تارةً وبحماية حدودها تارة، أو أن يصرّح أحد “الثائرين” مثلاً من وسط “تل أبيب”، بأنّ الأسد باع الجولان، وهذه الكوميديا التي احترفوها لم يكن ليتجرؤوا على إشهارها، لولا أنهم يتعاملون مع جمهورهم باعتباره شعباً ميتاً لن يرد لهم قولا، ولولا أنّهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أنّ مصدر اكتساب وجودهم وشرعيتهم هو من يستعبدهم وليس الشعب الميت. وهنا يثور السؤال الوجودي عن شكل التاريخ، فيما لو سقطت الثورة واستمرت دولة الشاه مع تسيدٍ غربيٍ وشعبٍ ميت.
كان أن استقالت مصر من الصراع العربي “الإسرائيلي” بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وكان ذلك قبيل الثورة الإيرانية، فسقوط الثورة كان سيجعل العالم العربي واقعاً بين أربع قوى رئيسية ومؤثرة، وهي قوى تدين بالولاء للغرب والولايات المتحدة خصوصاً، وهي “إسرائيل” وتركيا وإيران والسعودية، وبخروج مصر بثقلها العسكري والسياسي والبشري والجغرافي من الصراع، تكون الجبهة العربية في حالة هشاشة، وسيكون الرفض والتمسك بالحقوق حلماً يشبه المستحيل. كما بالإمكان إضافة انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية لتصوّر إمكانيات الاستمرار بالرفض، وحينها هل يمكن تصوّر حاجة أمريكا لرئيسٍ متهور لنقل سفارتها للقدس؟ وهل كانت بحاجة لـ”ربيعٍ عربي” لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟ وهل كانت “إسرائيل” بحاجةٍ لجدرانها العازلة؟ أم كان تمددها سيكون هو الشيء الطبيعي الوحيد، وهل التعامل معنا باعتبارنا شعوباً ميتة على مدى أربعين عاماً، سيجعلنا قادرين على التمييز بين الفروقات التاريخية والمصيرية بين أن تكون فلسطين أو تكون “إسرائيل”؟ ومن أين سيحصل من أراد القيامة من موتته على السلاح؟ وإن حصل على سلاحٍ بشقّ الأنفس ليطلق الرصاص على “إسرائيل”، وحينها ستقول تلك العقليات عنه تابعاً للغرب أو لـ”إسرائيل”، فهل كان بإمكان عقولنا كشعبٍ ميت أن نصدق قيامته أم نقول بتبعيته؟ وهل كان سينشأ محور مقاوم، فتضطر أمريكا للزّج به في فرن “الفوضى الخلاقة” لتحرقه، فينصقل ليصبح أمضى؟ ورغم أنّ الإجابات تبدو بديهية، إلّا أنّها ورغم نجاح الثورة الإيرانية تبدو بحاجةٍ للتذكير، فكيف برعب الحاضر والمستقبل ونحن نتصور فشلها؟
إنّ نجاح الثورة الإسلامية في إيران قوّم عنق التاريخ، بعد أن اعوجّ بفعل فاعل، كان يريد تأبيد عبودية شعوب المنطقة للغرب كمقدمةٍ للعبودية لـ”إسرائيل”، وإيران اليوم تدفع ثمن هذا التقويم، بعد أن كان شعار الثورة “سيادة – حرية – جمهورية إسلامية”.فاستقلالية القرار الإيراني وسيادته هما ما مكّناها من التصدي لفيضان العبودية، ومن أن تصبح دولةً عصرية بمعاييرها الخاصة حضارياً وعقائدياً، وجعل منها رقماً صعباً في السياسة الدولية، وجعل فلسطين ليست مجرد ذكرى غائمة في كتب التاريخ مصفرّة الأوراق، أو أحرفاً مشوشةً في الذاكرة أو مجرد سؤالٍ بليد عن موقعها على وجه الخرائط. الإمام الخميني ربط بين سيادة الشعب الإيراني وحرية فلسطين، فحين أرسل له الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات برقية تعزية في وفاة ابنه، رد بالقول “نحن نعيش أياماً عصيبةً ومصائب أفظع، وعلينا الّا نذكر مصائبنا وآلامنا الشخصية”، وهذا الجمع في الخطاب يستبطن وحدة المسار بل والمصير، لذلك فإنّ نجاح الثورة الإسلامية في إيران أبقى على جذوة الصراع الوجودي مع “إسرائيل” وأربابها مشتعلة. وبعيداً عن سياق الكتابة السياسية، فإنّي أقطع برحمة الأقدار التي تجلت بنجاح الثورة، بالتزامن مع خروج مصر من الصراع، كلما تصوّرت واقعنا فيما لو فشلت الثورة، إنّه سيناريو رعبٍ أسود وطويل.
موقع العهد الإخباري