توفيق شومان | كاتب وباحث لبناني
أغلب السياسيين اللبنانيين الحاليين ، يريدون أن يقنعوا الأجيال الجديدة ، بأن لبنان لم يكن دولة ولذلك انهار .
أولئك السياسيون يبررون حالة الإنهيار العام التي يعيشها اللبنانيون بالقول : إن لبنان يدفع الآن ثمن مئة سنة من العطل والفشل .
أولئك السياسيون يبررون فشلهم برمي الفشل على الماضي ، وعلى من سبقهم ، وفي الوقت نفسه لا يقدمون رؤية الحد الأدنى لبناء الدولة ولا تصور الحد الأدنى لإنقاذ الناس من مجاعة تطرق الأبواب والأمعاء .
يبررون فشلهم بلعن الماضي
إما يجهلون ماضي لبنان وإما يتجاهلونه
ما أسهل تبرير الفشل بلعن الماضي
لكن هل كان الماضي لعينا ؟
ماعدا قلة قليلة من السياسيين اللبنانيين الحاليين ، يمكن الذهاب مع أكثرهم إلى تحدي شخصي ومساءلتهم : ماذا يعرفون عن لبنان ما قبل 1975؟ ماذا قرأوا عنه ؟ عن اقتصاده ؟ عن موقعه العلمي ـ الأدبي ـ الإعلامي ـ الثقافي ـ الفني ـ الرياضي ؟.
البداية من الرياضة :
حتى يأتي اسطورة كرة القدم العالمية ، البرازيلي بيليه ، إلى بيروت في عام 1975، ويرتدي قميص نادي النجمة الرياضي ويؤدي مع لاعبي النادي مباراة استعراضية ، فلكم أيها السياسيون الفاشلون أن تتخيلوا موقع لبنان آنذاك في العالم شرقا وغربا .
وحين ينتصر نادي النجمة على نادي آرارات بطل الإتحاد السوفياتي ( واحد مقابل لا شيء ) في عام 1974 ، فللسياسيين الفاشلين ، أن يتصوروا أي شوط قطعته الرياضة اللبنانية حينذاك ، وإلى أي نقطة كان يمكن أن تصل ، ولأن يكسر العداء قاسم حمزة رقما قياسيا في أولمبياد ميونيخ عام 1972 ويحصل محمد خير الطرابلسي على ميدالية فضية برفع الأثقال في الأولمبياد نفسه ، فللسياسيين الجاهلين او المتجاهلين ان يفتحوا خيالهم الواسع ويتخيلوا أين كان لبنان رياضيا وأين أصبح في زمانهم .
إلى هوليود وبوليود :
حتى العام 1975، شكلت بيروت مع أربع مدن عالمية كبرى هي نيويورك وباريس ولندن وبون ، صالة اختبار لنجاح أي فيلم تنتجه هوليود عاصمة السينما العالمية.
ومن هوليود في الغرب ، إلى بوليود في الشرق ، لا شك ، أن أكثر سياسيي هذا الزمان ، لا يعرفون أن بيروت شكلت في آوائل السبعينيات من القرن الماضي ، مركز اختبار وانطلاق موجة الأفلام الشرقية ، فمن بيروت ومن سينما ” ريفولي ” بالذات عرف العالم أفلام ألعاب ” الكاراتيه ” وتعرف من خلالها على أبطال هذه الأفلام ، وانغ يو وبروس لي ، ومن صالتي ” ريفولي ” وبيغال ” انطلقت الأفلام الهندية نحو جهات العالم قاطبة ، وعلى الأرجح يتساءل أغلب سياسيي هذه الأيام : هل بالفعل كانت بيروت على هذه الصورة ؟. .
هم لا يقرأون ولا يريدون القراءة
هم لا يعرفون ولا يريدون المعرفة
من الصورة إلى الكلمة :
يقول الكاتب الصحافي الأكثر شهرة في العالم العربي محمد حسنين هيكل في كتب عدة له ، من بينها ” عبد الناصر والعالم ” و ” بين الصحافة والسياسة ” : إن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ، كان ينتظر كل يوم في العاشرة والنصف صباحا ، صحف بيروت ، وكان يحفظ أسماء الصحافيين والمعلقين ، حتى إذا التقى واحدا منهم ، كان يناقشه في مقال أو تعليق كتبه قبل أسابيع وأشهر و ربما أكثر .
و في كتابه ” حوارات مع السادات ” يقول الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين ، نظير هيكل في الأهمية وأحد خلفائه في رئاسة تحرير صحيفة ” الأهرام ” ورئيس التحرير الأسبق لمجلة ” العربي ” الكويتية الرائدة :
” بدت الدهشة على وجهي حين قال لي الرئيس أنورالسادات إنه لم يقرأ صحيفة لبنانية واحدة منذ ستة أشهر ، فالصحافة اللبنانية كانت أحرزت لنفسها مكانا مرموقا ومؤثرا في العالم العربي ” .
ومع ذلك يقول أحمد بهاء الدين إن الرئيس السادات طلب منه إصدار مجلة مصرية أسبوعية شبيهة بمجلة ” الحوادث ” اللبنانية ، التي كانت تشد العيون والعقول إلى قراءتها في مجمل الأقطار العربية .
ماذا يعرف أغلب السياسيين الحاليين عن ذاك الوجه المضيء للصحافة اللبنانية ؟ عن تاريخها ؟ عن دورها ؟ عن تأثيرها في تشكيل الوعي العربي العام ، ثقافة وسياسة من أعلى رأس الهرم قادة وصناع قرار إلى قاعدة الهرم شعوبا وجمهورا وقراء؟.
ماذا عن الإقتصاد المنكوب ؟
ماذا عن نكبة الليرة؟
بين الأعوام 1961و1974، تراوح سعر الدولار الأميركي الواحد بين ثلاث ليرات لبنانية و22 قرشا وبين ثلاث ليرات و92 قرشا ، فيما الآن يتجاوز سعرالدولار الواحد عشرة آلاف ليرة ، وتنبىء المؤشرات إلى أن الآتي أعظم ، حيث لا سقف لإرتفاع الدولار ولا قاع لهبوط الليرة .
هل أجرى السياسيون الحاليون مقارنة بين ما كانت عليه الليرة اللبنانية وما صارت عليه ؟
طبعا ، سيقول بعضهم وفقا للمنطق الممجوج إن لبنان اعتاش على أزمات المنطقة ، وهذا المنطق العاري ، لا يعرف أن الإقتصاد اللبناني راح يتمأسس منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، وطنيا وذاتيا ، وليس امتدادا خدماتيا لإقتصادات الدول الكبرى كما جرت الحال مع أصول الرساميل والإقتصادات العربية الأخرى ، مثلما يقول فيليب مانسيل في كتابه ” ثلاث مدن مشرقية ” الصادر عن سلسلة ” عالم المعرفة ” في الكويت ، ولذلك حين هاجرت أجزاء من الأموال العربية إلى لبنان بعد حقبة التأميم الخاطئة في بعض الأقطار العربية ، وجدت بيئة مؤاتية في لبنان ، رأسمال مكتمل وإقتصاد متحفز واستثمار منتج ، وفي ظل هذه البيئة الجاذبة والجذابة، تحول لبنان إلى أكثر دول المنطقة تصنيعا مثلما أوردت مجلة ” الرائد العربي” في عددها الصادر في شباط / فبراير 1961، وإلى حدود راح معها الخبراء يبحثون في إمكانية أن تتحول الليرة اللبنانية إلى عملة إقليمية ، يتم تداولها في دول المشرق العربي كافة .
وعلى ذلك ، شهد لبنان في مرحلة الستينيات نموا كان يتجاوز الستة في المائة أحيانا ، ولم يتعد مؤشر التضخم واحدا ونصف في المائة ، وبقي العجز في الموازنة مقبولا بصورة عامة ،حيث لم يتجاوز2،3 ، بينما اقترب فائض الخزينة من 14 مليار ليرة لبنانية إلا قليلا .
في دراسة بعنوان ” تشجيع إنهاء الفقر وتعزيز الرخاء المشترك ” صادرة عن البنك الدولي عام 2015 ، جاء :
” بين الأعوام 1961 و1974،انخفضت نسبة الفقر في لبنان من 50 في المائة إلى 22 في المائة “.
يا للعجب :
في عام 1974، نجح السياسيون اللبنانيون الراحلون في خفض نسبة الفقر بنسبة قياسية ، ومنذ عام 2019 ” أفلح ” السياسيون اللبنانيون الحاليون في رفع نسبة الفقر وبزمن قياسي لتشمل أكثر من 55 في المائة من اللبنانيين .
يا للعجب مرة ثانية :
في عام 1974، كانت الخزينة اللبنانية فائضة ، ومنذ عام 2019 أصبحت الخزينة اللبنانية خاوية .
يا للعجب مرة ثالثة :
في الستينيات والسبعينيات ، كان يجري النقاش حول احتمال تحويل الليرة اللبنانية إلى عملة إقليمية وفوق وطنية ، كانت الليرة فخرا ، ومنذ عام 2019 صارت الليرة قهرا .
يا للعجب مرة رابعة :
لماذا يقال : إن السياسيين الراحلين فاشلون ؟!
وماذا يقال عن غالبية أهل السياسة الحاليين ؟!
هل من عجب ومن علامات تعجب بعد ؟
دعاء : اللهم … اجعل أهل السياسة يقرؤون .