نارام سرجون | كاتب سوري
سأرثي لكل من أرهقته الحرب السورية وهي تضعه كل يوم أمام ألغاز وأحجيات وهو يدوخ في حلها .. منذ اليوم الأول وهذه الحرب تتحدى الجميع بالاسرار .. منذ لحظة اعلان قصة أظافر أطفال درعا .. الى هذه اللحظة .. وأخفق الكثيرون في التنبؤ بمساراتها الا قلة قليلة كانت تفهم معادلات الصراع وتعرف ان كل مايقال في الامم المتحدة ومؤتمرات اصدقاء سورية وتصريحات الغرب ليس لها أساس من الصحة ..
ولاتزال أحجية العلاقة الروسية التركية تشغل بال الكثيرين .. فأردوغان هو عدو لروسيا قبل ان يكون عدوا لسورية لأنه ثاني عضو في الناتو وهو الوحيد من كل دول الناتو الذي على حدود نطاق روسيا .. ولايفصل بينهما سوى رحلة في البحر الاسود .. ومع هذا فانه يشتري منها صواريخ استراتيجية ويوقع معها معاهدات فيما هي تغازله وتغفر له وتسامحه رغم انه أسقط لها طائرة بقصد جرها الى حرب مع الناتو ..
وروسيا هي التي سمحت له بدخول بعض الجغرافيا واعطته دور ضامن في اللعبة السياسية الجارية في أستانة ..
ولكن مابين روسيا وتركيا من البغض والحذر مالا يريد البعض الاعتراف به .. فالمصافحات والسياسة الناعمة لايجب ان تخدع أحدا .. والمصالح الاقتصادية لايمكن ان تقدم على حساب المصالح الاستراتيجية والوجودية .. لأن روسيا تدرك ان اردوغان كان يريد كل سورية او جزءا منها وجزءا من العراق .. ولكن سقوط سوريا بيد تركيا سيعني ان عضو الناتو التركي سيصبح أقوى وأكثر خطرا وستلتحق سورية بخدمة الناتو .. وسيعني ان روسيا لن تقدر على لجم طموحات تركيا في جمهورياتها الاسلامية ..
ومن يظن ان اللقاء بين اردوغان وبوتين سيكون سهلا على اردوغان فسيكون مخطئا .. فهو من اصعب لقاءات حياته السياسية بلا شك .. لأنه لايملك أي اجابة لأسئلة سيوجهها اليه بوتين الذي ستكون الجلسة مع اردوغان بمثابة محاكمة في الديبلوماسية .. ومن لايقتنع بهذا الكلام عليه ان ينظر الى مايفعله الاثنان في ادلب عسكريا .. فقبل استقباله كان الطيران الروسي يقصف تحت أنف وشوارب اردوغان ووصلت رائحة الدخان الى استانبول ودخلت غرفة نومه ومكتبه .. واردوغان نفسه قبل ان يسافر الى بوتين قام باستعراض ونفخ عضلات وأظهار البأس والرغية في رفع سقف التحدي .. وهذا يعني ان الحوار سيكون خشنا للغاية وانه يستعد لسماع توبيخ شديد من الروس .. فالتحركات العسكرية التركية التي دفع بها الى ادلب تعني ان الرجل يتوقع جدا فشل المحادثات وانزعاج بوتين وربما سيرفع الاخير سماعة الهاتف امام اردوغان ويعطي الامر بضرب كل شيء في ادلب .. ولذلك فان اردوغان يريد ان يقول في استعراضاته العسكرية انه ذاهب الى بوتين وليس في نيته تقديم الكثير .. والدليل انه لم يخفف الوجود التركي ولم يرسل وزير دفاعه الى لقاءات عسكرية ليعلن ان التنظيمات الارهابية في ادلب عليها ان تذعن للاتفاقات الروسية التركية .. بل بدا ان الاتراك يقولون بأن على روسيا ان تتوقع ان ادلب ليست حلب وأن تقاتل تركيا في ادلب بكل شراسة وستعطي أسلحة نوعية للمسلحين بما فيها مضادات الطائرات ..
هذا السلوك تفهمه روسيا على انه ليس وديا ويعني ان ماستقبل به تركيا هو شيء قليل والفاصل بينه وبين الحرب قليل .. ولكن روسيا تعرف شخصية اردوغان كثيرا وهو انه عندما يرفع من سقف طلباته فانه يقوم بذلك لتسويق نفسه بين جمهوره والاسلاميين من انه يحاول كل شيء بمستطاعه .. وانه لايعني دوما انه متهور ومغامر ولايحسب اي حساب .. فهو في معركة حلب التي كانت ام المعارك التركية لم يجرؤ على اعلان الحرب والتدخل رغم انه كان يمكن ان يقول انه يدافع عن مسلمين ومدنيين وثورة ووو .. ولكنه دفع بكل مااوتي من قوة بالاسلاميين والارهابيين وحرض كل الناتو اعلاميا لمساندة ثورجية حلب .. ولكنه لم يتجرأ على دفع عربة تركية واحدة او جندي تركي واحد في المعركة لان ذلك سيجعله وجها لوجه امام العملاق الروسي والجيش السوري .. وهو في ادلب سيكرر الموقف وسيظهر الكثير من الحكمة وضبط النفس .. وسيكرر سيناريو حلب ويلتزم الحياد ويعض على كبريائه الجريح .. ولذلك فان اردوغان ليس جادا في تحركاته وتصريحاته التي تعرف على انها صارت جزءا من السياسة التركية التي تتذوق الخصم وتحاول ايهامه انها سياسة انتحارية .. فان وجدت انه شرس فانها تحجم وان وجدت انه غير مبال بما تفعل فانها تستعرض شراستها .. وهو كسياسي تركي من خلال الدراسة الروسية لشخصيته صار معروفا انه يحب الاستعراض وحبس الانفاس ولكن امام اللحظات الحاسمة فانه يتراجع بسرعة .. اي انه ينبح ولايعض .. وهو في ذروة التشنج يهيء نفسه لتقديم تنازلات امام اي ضغط .. ويتغير فجأة من انتحاري الى محب للحياة ..
وفي موضوع ادلب لن تسمح روسيا لاردوغان ان يستولي عليها ليس لأنها جزء من الأراضي الروسية ولالأنها تدافع عن الاراضي السورية الحليفة .. بل لأن بقاء اردوغان في ادلب سيعني ان هذا الجيب المكتنز بالارهابيين سيتحول الى افغانستان قرب قاعدة حميميم وعند اي تغير في الاوضاع الدولية سيتم توجيه حشود ارهابية لتحاصر القاعدة بهجوم من جيب ادلب الذي لايحتاج الا لقطع الطريق بين طرطوس واللاذقية حتى تصبح اللاذقية محاصرة بما فيها قاعدة روسيا الجوية والبحرية وتفقد كل صلتها بالعمق السوري كله وتتقلص مناوورة روسيا من كل الجغرافيا السورية لتكون فقط في محيط مدينة اللاذقية .. وهو مايعني اسقاط روسيا في سورية وهو ماقد يعني نهاية الرحلة الروسية في الشرق الاوسط .. فليس طموح روسيا ان يكون لها قاعدة محاصرة بين تركيا وقواعد الناتو في قبرص وهي بلا عمق في سورية .. والا لكانت حصلت عليه من خلال عرض حمله بندر بن سلطان للرئيس بوتين بان يتخلى عن سورية ويحصل على عقد ايجار ل 99 سنة في قاعدة طرطوس البحرية ..
اردوغان يدرك صعوبة اللقاء القادم ويدرك انه يحتاج الى قدر كبير من اللغة والمنطق والاقناع .. واحيانا التباكي على والشكوى من معضلة تركيا مع ملايين النازحين الذين يفكر اردوغان باعادتهم الى ادلب ويتخلص من وجودهم في تركيا .. وسيشكو من الارتدادات في الداخل التركي على هيبته فيما هو يتفنن في الاستعراضات العسكرية ونفخ ريش الطاووس فربما يخيف الطاووس رجل الكي جي بي الروسي .. كي يغير مافي رأس بوتين .. الرأس الذي لايخدع بسهولة ..
ادلب تأخرت لأنها في الفلسفة السورية والروسية الملاذ الاخير الضروري لكل الارهابيين والاسلاميين .. وهي مكان تخزين كل الحلول المؤجلة في السياسة.. ومكان تخزين كل الإرهابيين الذين كان يمكن تصديرهم اليها واجراء مصالحات .. وكان من الضروري السماح بهذا التجمع الذي يظهر وكأنه برعاية تركية كي يسهل من عمليات المصالحة وانتزاع الارهابيين من الارض السورية بأقل الخسائر .. لأنه لايوجد طرف دولي ثالث سيقبل بتصدير هذه النفايات القاتلة اليه .. حتى تركيا .. وحتى اسرائيل قامت باعادة تصدير الخوذ البيضاء الى خارجها رغم انهم عملاؤها .. ولذلك فان وجود جيب ادلب بدا مفيدا لأن انسحاب الارهابيين الى ادلب كان بسبب قناعة البعض انه سيبقى هناك الى الابد لأن تركيا باقية هناك وهي قد أنيطت بها هذه المهمة بموافقة روسية وربما تكون ادلب هي مكافأتها .. ولن تفكر روسيا في الحرب مع تركيا اذا قررت البقاء .. ويظن هؤلاء ان تركيا مارست الخداع والتتريك وهي مطمئنة الى ان ادلب خرجت لتلتحق بلواء اسكندرون لعشرات السنين ..
ولكن الحقيقة هي ان المهمة التركية في لعب دور الناطور على نفايات الحرب السورية شارفت على النهاية .. وتنظيف الجنوب السوري مؤشر على ان ادلب نضجت لتقرر خارطة طريق نهائية لمصير أكبر تجمع ارهابي في التاريخ ..
اردوغان في سوتشي ليس في زيارة بل في محاكمة خشنة روسية ظاهرها مهذب وديبلوماسي ناعم ومفرط في الترحيب والمديح وليتبلغ ان مهمته تغيرت الان .. وقبل ان يقابله الرئيس بوتين كان الطيران الروسي ينقل رسالة بوتين والاسد بخشونة .. فيما كان هو يلعب أوراقه الاستعراضية بالحشود في جبل الزاوية والتهديد بتسليح الارهابيين باسلحة نوعية .. ولكن اردوغان رغم انه صلف وطائش الا انه في الحقيقة يتوقف طيشه عند حافة الهاوية ويفاجئ الجميع بأن نوبة الصرع والجنون توقفت وخرج من المجنون رجل حكيم وخرج من الطائش رجل عاقل ويعود اليه عقله ووعيه واولوية الحفاظ على السلامة .. ويتذكر ان من الكفر ان يرمي المؤمن نفسه الى التهلكة .. ان دعوات كل محبيه هذه الايام يجب ان تكون فقط من أجل ان يخفف الله عنه عذابات هذا اللقاء وشقاء الساعات التي سيمضيها في ضيافة ألد أعدائه .. وأقصى ماسيناله هو تقسيط الدفع من خزان ادلب على مراحل ..