مؤتمر موسكو.. نحو حلف وارسو جديد بمواجهة “الناتو”
العميد الركن الياس فرحات | باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
مؤتمر موسكو للأمن الدولي الذي إنطلق في العام 2012، لا يقتصر على ورش عمل نظرية وخطابات كلاسيكية بل يتيح تحديد مجالات واعدة للتعاون العسكري بين الدول المشاركة، وهذه السنة تؤسس مناقشاته لنواة حلف سياسي عسكري مضاد لحلف الناتو على طريقة حلف وارسو سابقاً.
أكثر من 600 ضيف يمثلون أكثر من 100 دولة وبينهم وزراء دفاع أو نوابهم وقادة جيوش ومستشارو أمن قومي وخبراء، شاركوا على مدى يومين (23 و24 حزيران/ يونيو الحالي) في مؤتمر موسكو للامن الدولي التاسع، وذلك برغم اجراءات كوفيد 19، ما يدل على ثقة روسيا بالوضع الصحي في البلاد واحتواء الفيروس التاجي، علماً أن عدداً قليلاً من المدعوين إختاروا المشاركة عبر تقنية الفيديو. في الشكل، يمكن اعتبار المؤتمر تظاهرة دولية بدعوة من روسيا وبحضور أوروبي وأفريقي وأميركي (لاتيني) وأسيوي تقدمته الصين وغابت عنه اليابان. حضرت دول عربية كثيرة أيضاً، بإستثناء لبنان الذي كان يفترض أن يتمثل بوزيرة الدفاع زينة عكر، لكنها عدلت عن المشاركة وإعتذرت من الجانب الروسي، بعد تسلمها وزارة الخارجية، علماً أن الجانب الروسي وجه إليها الدعوة لزيارة موسكو في الصيف المقبل، بإستثناء شهر آب/ أغسطس، كونه شهر عطلة رسمية في روسيا. وغاب لبنان الرسمي عن الحضور حتى على مستوى سفارته في موسكو، لتقتصر المشاركة اللبنانية غير الرسمية على كل من الضابطين المتقاعدين الياس فرحات (بالفيديو) وسعيد القزح، بدعوة من السفارة الروسية في بيروت والخبير الإقتصادي د. حسن مقلد، بدعوة من وزارة الدفاع الروسية. وإقتصر الحضور الغربي على باحثين من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا والمانيا. شكّلت الكلمات السياسية الاستراتيجية في المؤتمر مضبطة اتهام للولايات المتحدة وسياساتها الهجومية في العالم، ووضع المؤتمر بعض الافكار التي يمكن أن تشكل ركيزة في مواجهة الهجمة الغربية المنسقة من الولايات المتحدة ودول حلف شمال الاطلسي ضد روسيا والصين. ويمكن القول إن هذه الافكار تشكل اساسا لانشاء حلف وارسو جديد قد ينطلق من منظمة شانغهاي وأسيان ويتوسع الى غرب اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية بهدف الوصول إلى عالم ثنائي القطبية من دون جهوية شرق وغرب. وعدا عن كلمتي الإفتتاح لكل من الرئيس فلاديمير بوتين والامين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريس عبر الفيديو، ضمت الجلسة الاولى التي تعبر عن سياسة روسيا الإتحادية الى جانب وزير الدفاع سيرغيه شويغو، وزير الدفاع الصيني واي فينجي، رئيس الاركان الروسي الجنرال فاليري غيراسيموف، وزير الدفاع في بيلاروسيا فيكتور خرينين، رئيس اركان الجيش الايراني اللواء مهدي رباني الذي حل مكان وزير الدفاع القطري خالد العطية في الجلسة الاولى من دون ذكر الاسباب، بالاضافة الى رئيس اللجنة الدولية للصليب الاحمر بيتر مورير والرئيس الافغاني السابق حميد كرزاي.
وكعادته، وجّه وزير الدفاع الروسي سيرغيه شويغو انتقادات عنيفة إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي، واعتبر ان القمة الاخيرة التي عقدها “الناتو” في بروكسيل رسخت تحوله الى حلف سياسي ـ عسكري يهدف الى ردع روسيا والصين، وانتقد نزعة استخدام الضغط الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية لاجبار دول ذات سيادة على تغيير سياساتها، مشيرا إلى ان هذه النزعة تظهر حاليا في جنوب شرقي اسيا حيث تواجه بعض الدول ضغوطاً اميركية لارغامها على انشاء منظمات مشابهة لحلف الاطلسي، فيما يكثف هذا الحلف نشاطه ويشارك في مناورات اقليمية في المنطقة. وحذر شويغو من أن بعض الدول تنشىء قيادات ووحدات خاصة في منظومتها العسكرية لوضع خطط عسكرية في الفضاء وفي المجال السيبراني. ومن اخطر ما قاله شويغو هو اعتباره الوضع في اوروبا قابلا للانفجار وبالتالي يتطلب اجراءات لتخفيف التوتر، كما اعتبر ان زيادة الانفاق العسكري يعكس تصاعد النزعة العسكرية في اوروبا. بالنسبة لافغانستان، اعتبر شويغو ان حلف الناتو الذي انتشر في افغانستان لمدة عشرين عاما فشل في تحقيق اي نتيجة في بناء الدولة الأفغانية، وتوقع استئناف الحرب الاهلية في افغانستان حالما تنسحب القوات الاميركية منها. وعرض شويغو استخدام امكانات منظمة شانغهاي للتعاون (تضم دولاً مثل روسيا والصين وكازخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان) لحل العقدة الافغانية، وشدد على أن لا حل للمعضلة الأفغانية من دون التعاون مع باكستان وايران. بدوره، أعلن رئيس الاركان الروسي فاليري غيراسيموف ان الغرب وبعد الانتصار على الفاشية عام 1945 لم يلتفت الى بناء عالم جديد بل بادر الى خوض الحرب الباردة وقسّم العالم الى معسكرين متنازعين. وأشار إلى أن الولايات المتحدة اوقفت العمل بمعاهدة الحد من انتشار الاسلحة المتوسطة المدى لكنها ابقت على معاهدة الحد من الاسلحة الاستراتيجية وذلك لتفادي نشوب حرب نووية، وحذر من سباق تسلح متصاعد. اما وزير الدفاع الصيني واي فينجي، فقد اتهم الولايات المتحدة بفرض سياسة الاحتواء والهيمنة ومفاهيم من جانب واحد، واعتبر ان العالم ليس آمناً وان البيئة الامنية الدولية غير سليمة وأن النزاعات الاقليمية تزداد .
واضاف ان هناك دولة واحدة نصبت نفسها شرطي العالم وتفرض سياسة المواجهة العسكرية، واعلن ان الصين تعمل لحماية مصالحها بالاستناد الى القانون الدولي وبالاشتراك مع الامم المتحدة. وحذر من ان الصين لن تسمح بأي محاولة للمس بوحدتها الاقليمية وبالتالي لن تسمح لتايوان بالاستقلال عنها، مؤكداً ان جيش التحرير الشعبي الصيني يدافع عن الصين شعباً ودولةً وهو جاهز لمد يد العون لجيوش العالم من أجل مكافحة الارهاب. وابدى وزير الدفاع الصيني استعداده للعمل مع الولايات المتحدة لخفض النزاعات وتحسين العلاقات الاميركية الصينية ولكن على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات ايجابية باتجاه الصين . وهاجم وزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين الثورات الملونة، واعتبر انها تقوّض استقرار الدول وتحد من استقلالها، واشار الى خطورة سابقة اغتيال قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني، وحذر من الحشود العسكرية الاطلسية في ايطاليا والمانيا ومن نشر قوات برية في اوروبا الشرقية السابقة، كما لفت الإنتباه الى خطورة خلق ساحة نزاع عسكري في الفضاء.
وإنتقد رئيس الاركان الايراني اللواء مهدي رباني التدخلات الأميركية في غرب اسيا وشمال افريقيا ما ادى الى زعزعة استقرار هذه المناطق، واعتبر ان داعش منتج اميركي، واعلن ان ايران وروسيا تدعمان حكومتي سوريا والعراق في مكافحة الارهاب. اما رئيس اللجنة الدولية للصليب الاحمر بيتر مورير فقد قال أن لا أحد يقاتل وحيداً، وكشف عن تعاون بعض الدول مع منظمات مسلحة. عملياً، كان يوجه اتهاماً مبطناً إلى دول تدعم تنظيمي “داعش” و”القاعدة” باعتبار ان تنظيمات حزب الله وانصار الله في اليمن وحماس والجهاد الاسلامي في فلسطين تتلقى دعما علنيا من ايران، وهو بذلك يطرح سؤالا عمن يدعم داعش والقاعدة، ودعا إلى تحييد المدنيين عن النزاعات المسلحة. في اليوم الثاني (الخميس)، تحدث سكرتير مجلس الامن القومي الروسي سيرغي ناريشكين، فاتهم الولايات المتحدة بعدم التعاون في مسألة الحد من إنتشار جائحة كورونا، واتهم بعض الدول الغربية بالعمل ضد استعمال اللقاح الروسي (سبوتنيك V)، واكد ان روسيا ساعدت معظم الدول بغض النظر عن جغرافيتها او لونها ولم تستخدم اللقاح لاسباب سياسية. اضاف ناريشكين ان روسيا شاركت في قوات حفظ السلام في عدة دول وتمكنت من دحر الارهاب في سوريا. ورأى ناريشكين ان دول الغرب لم تنتبه إلى انها اصبحت انظمة استبدادية “فالولايات المتحدة تغلق حسابات لشركات ومؤسسات على شبكة الانترنت”، كما ان منصة تويتر اغلقت حساب الرئيس السابق دونالد ترامب برغم انه نال نحو 70 مليون صوت في الانتخابات الأميركية، واشار إلى ان روسيا تعرضت لهجمات سيبرانية تم التخطيط لها في الولايات المتحدة واوروبا. عن افغانستان، حذر ناريشكين من ان انسحاب القوات الاميركية سيؤدي الى زيادة التوتر، واتهم بشكل مبطن الولايات المتحدة واوروبا بالرهان على النازية الجديدة في اوكرانيا، وكشف عن محاولات متزايدة لانتهاك سيادة روسيا البحرية والجوية. وتحدث وزير الخارجية الروسي سيرغيه لافروف، فإعتبر ان هناك مشاكل في الامن الدولي الاستراتيجي ناجمة عن خروج الولايات المتحدة من اتفاقيات نزع الاسلحة النووية المتوسطة والقصيرة المدى وعن خروجها ايضا من اتفاقية الاجواء المفتوحة، وانتقد معارضة الاتحاد الاوروبي لخروج روسيا من اتفاقية الاجواء المفتوحة، مشيرا ان وجود روسيا بعد انسحاب الولايات المتحدة ليس له أي معنى، واتهم بعض الدول بانشاء مختبرات لاسلحة بيولوجية، وأكد ان دول الغرب تتهرب عمداً من العروض الروسية لمناقشة منع انتشار الاسلحة البيولوجية. وهاجم لافروف الإستراتيجية الأميركية في المحيطين الهندي والهادىء ورأى أنها تهدف لاحتواء الصين وعزل روسيا، وقال إن منطقة آسيا والمحيط الهادئ “يجب أن تكون خالية من الألعاب الجيوسياسية، بالنظر إلى أهميتها باعتبارها قاطرة للاقتصاد العالمي”.
180 بوست