لماذا يهتم أحد؟
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
قال له: تُوفيّ شقيق أحد النواب. لم يهتم السامع، كأنه لم يسمع. أضاف: ربما شقيق وزير.. أو إبن رئيس. لم تخرج ردة فعل الآخر عن اللامبالاة.
على عكس ما هو مُفترض ومفهوم، فالأمر ليس بسيطاً ولا عابراً ولا من دون أدنى أهمية. عدم اكتراث المواطن بوفاة قريب سياسي لبناني، حتى من دون السؤال عن هوية السياسي ودرجة القرابة، تعني سقوطهم خارج أدنى اهتمامات المواطن… كلّهم بما فيهم التاريخي وحديث العهد والمناضل والزعيم والمقاوم والـدرويش والوطني والعميل… فالغربال مجرّد إطار فقط بلا شباك، والجميع تحته.
ذروة الكفر بهم جميعاً. باب جحيمي جديد يُفتح في مادة “كلّن يعني كلّن”.
قوة هكذا موقف أنه لا يكون مأجوراً. فلا أحد يدفع لأحد ولا أحد يقبض لكي “لا يكترث ولا يهتم”. ليس موقفاً سياسياً ولا عشائرياً ولا طبقياً ولا إنسانياً حتى…كأنه موقف رجل الغاب قبل أبجدية الإشارات و”مسلكية التداجن”.
هكذا بات شعور اللبناني تجاه الشخصيات العامة في البلد، تماماً كموقف “ذئب غاب جريح ساورته المِحن”… منتهى العدوانية وقمة الاستخفاف بحياة الآخر.
خطاب الزعيم الذي يُعلن عنه مُسبقاً قبل يوم وأسبوع وشهر… لم يعد ينتظره سوى كَتَبَة التقارير ومُشغِّليهم؛ وحدهم من يهتم بمتابعته، اللهم إلا قلة قليلة لا تخبر أحداً عن أسبابها. يحلّ الكورونا فيقدّم فرصة للزعيم كي لا يخرج من وجره. وحتى داخل الوجر يضطر لمعاقرة الشكّ بكل من حوله والخوف من جميع يقع ضمن مجال نظره. حتى لقمته بات يتناولها مُتردداً وكأنها آخر لقمة في حياته، وشُربة الماء تحوّلت إلى مراهنة روسية بالمسدس البَكَر. تراه يمضغ وعيونه مركّزة على وجه الطبّاخ أمامه، لعله يفهم أو يستنتج من تعابير وجهه نوع السمّ الذي ربما يكون دسّه له في الطعام أو كوب الماء.
عالم الزعيم صار صغيراً ومحدوداً، كلّه هؤلاء المحيطون به من حرّاس وأمنيين بمن فيهم المرافق ومن يُوشوِش ومن يطبخ ومن يطبب. عالمه كلّه مجموعة من القَتَلَة في المافيا (يُسمّونها التنظيم) من الذين ترقّوا بالقتل والإجرام والنهب والإرهاب، إلى أن بلغ واحدهم مرتبة مجاوَرة الزعيم والعيش بالقرب منه حتى شمّ رائحة العطر الذي… لم يعد يستخدمه. هنا تسود فقط رائحة الدم… الذي جرى سفكه والذي ينبغي أن يُسفك. فالزعامة في هذا المربع لا يسقيها غير الدم، وما لم يسقها النجيع الأحمر، تذوي كجثة نتنة… ويصبح الزعيم بلا سطوة ولا رهبة، يعيش في خطر أن ينهشه ذئابه.
ليس بوسع الزعيم أن يُطلّ من النافذة ويرى الناس في الطريق. فالنافذة رصاصة قنص، والناس عُلاء وقَتَلَة مُحترفون يتربصون به. صحن الكنافة الذي كان يحبه…بات يشتهيه ولا يناله. فقد طعن في السن حتى تجاوز عمر الكنافة والقطر والسمن. هنا طبيبه يتربص به ليمنعه ومرافقه الشخصي أيضاً وحارسه أيضاً وأيضاً وجملة الأثرياء المعتاشين من حمايته لنهبهم. جميعهم يجهدون لحماية استثمارهم… وبالتالي فلا مجال. كأنه زعيم آخرين وليس الزعيم هنا داخل الوجر.
زوجته يمكنها مقابلته حين تشاء… لكنها ما عادت تشاء. تُرسل له مع مرافقها الشاب ما ينبغي أن يوقّعه من أوراق ومعاملات. أولاده كذلك. ثم إنهم ليسوا متفرّغين لمقابلته إذ أن لديهم ثرواتهم التي ينبغي لهم ملاحقتها وإحصاءها. وهذا أهم بكثير من دقائق تضيع في السلام والكلام ومتابعة ما هو معروف ومكرر.
المواعيد الرسمية لم تعد تقليداً سائراً. وحدهم المرخص لهم بالدخول عليه، هم شركاؤه (القِلّة) في الصفقات والالتزامات والمشاريع، وهم بالطبع من السياسيين… يجيئون تحت يافطة التشاور في شجون البلد، وينتهون إلى تقاسم الصفقة. وبالمناسبة فهم من كل الطوائف.من قال إن الزعيم طائفي كما هم غوريللاته في الشوارع وعلى الحواجز؟
لذلك… ولأمور أخرى كثيرة يصبح السؤال مشروعاً: لماذا قد يهتم أحد…؟