عمر معربوني – باحث في الشؤون السياسية والعسكرية
كان لتاريخ 9 حزيران /يونيو 2017 وقعٌ مهم لا تزال تردّداته قائمة حتى اللحظة بما يرتبط بتغيير قواعد الاشتباك داخل سوريا وفي المنطقة، ففي ذلك اليوم، وصلت وحدات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة لها، لأول مرّة، إلى شمال شرق التنف، منذ أن استطاع تنظيم داعش الإرهابي السيطرة على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية والعراقية.
وصول الوحدات العسكرية السورية إلى شمال شرق التنف، توازى مع عمليات تقدم للقوات العراقية والحشد الشعبي، لتكون أول عملية التقاء للقوات على خط الحدود السورية- العراقية بتاريخ 18 حزيران /يونيو 2017.
عملية الربط التي حصلت على اتجاهي الحدود، سبقتها مناورة تضليلية نفَّذها الجيش العربي السوري، من خلال التقدّم نحو نقاط تمركز قوات الاحتلال الأميركي في منطقة التنف، باندفاعة مباشرة نحوها، لإلهائها مع الجماعات الإرهابية المدعومة منها، لتحقيق الاندفاعة نحو الحدود السورية- العراقية.
سبق هذه الاندفاعة أكبر عمليات عسكرية شهدتها سوريا حينها، من تحرير الأحياء الشرقية في مدينة حلب، إلى تحرير شرق حلب ومدينة تدمر، التي استخدم فيها الجيش العربي السوري أنماطاً جديدة من القتال، اعتمدت على المناورات الواسعة وعمليات التطويق والإطباق، وهي الأنماط التي ساهمت في شل حركة الجماعات الإرهابية في مساحات واسعة من البادية السورية.
ثمة تاريخ آخر كانت له أهمية يوم 9 حزيران/يونيو 2017 نفسها في تغيير قواعد الاشتباك، وهو يوم 11 شباط/فبراير 2018، حين أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة “أف– 16” في المجال الجوي لفلسطين المحتلّة بصاروخ “أس– 200″، لنكون منذ ذلك اليوم أمام متغيّر كبير تمثّل بعدم إقدام طائرات كيان العدو على خرق المجال الجوي السوري، واعتماد خطط باتت تعتمد على المجال الجوي اللبناني، والتسلل عبر الحدود الأردنية على ارتفاعات منخفضة بأكلاف عالية جداً لكل غارة تنفّذها طائرات العدو، باستخدامها صواريخ جوالة موجّهة كبديل من القنابل الانزلاقية المنخفضة الكلفة، والتي تستوجب وجود الطائرة فوق الهدف مباشرة لإلقائها.
بعد التاريخين المذكورين أعلاه، أصبحنا أمام وضع مختلف تماماً، سواء بالنسبة إلى ما تحقق من انتصارات على الجماعات الإرهابية أو بما يرتبط بالمواجهة مع كيان العدو، فالمعارك في مواجهة الجماعات الإرهابية وصلت إلى مرحلة متقدمة في الجانب المرتبط بتحرير الجغرافيا واستعادة الدولة السورية سيطرتها، رغم التعقيدات الكبيرة التي تتحكّم بالميدان في الشمال الشرقي والغربي لسوريا.
أمّا كيف أصبحنا أمام وضع مختلف، فمن المعروف أن خط الإمداد المرتبط بالمواجهة مع كيان العدو، وتحديداً على الجبهة السورية، كان مقتصراً على الجو والبحر، وهما خطّا إمداد بطيئان لا يستجيبان بمرونة لاحتياجات المعركة المستمرة، وهو أمر ينطبق أيضاً على البعد الاقتصادي، فعملية الربط بين الحدود السورية- العراقية ستمكّن دول محور المقاومة وقواها من تنفيذ عمليات تبادل تجاري سريعة، وخصوصاً إذا ما تمّ استكمال إنشاء خط السكة الحديدية من إيران، وصولاً إلى السواحل السورية، وهو ما سينعكس إيجاباً على مستويات التنمية في إيران والعراق وسوريا، وبالتأكيد لبنان، لكونه يرتبط عضوياً بهذه الجغرافيا الممتدة.
على المستوى العسكري، ممّا لا شكّ فيه أن تثبيت خطّ الإمداد الاستراتيجي من طهران إلى لبنان ستكون له تداعيات سلبية على كيان العدو، فالجبهتان اللبنانية والسورية أصبحتا تمتلكان عمقاً جغرافياً هائلاً يصل إلى حدود الألف كيلومتر من جنوب سوريا ولبنان، وصولاً حتى الحدود الإيرانية، مقابل جبهة صغيرة الامتداد تقارب 60 كلم عرضاً بالنسبة إلى الجبهتين السورية واللبنانية، وبعمق مماثل، وهي نقطة الضعف الأكبر لكيان العدو في أي مواجهة شاملة قادمة.
ثمة أمر آخر لا يقل خطورة بالنسبة إلى كيان العدوّ، يتمثل بالقدرات البشرية التي يُمكن دفعها إلى المواجهة، وهي قوات باتت تمتلك خبرات واسعة وعالية جداً، سواء بالنسبة إلى المقاومة اللبنانية، أو القوات الرديفة في سوريا، أو بالنسبة إلى الحشد الشعبي العراقي وفصائل المقاومة العراقية، وفصائل أخرى يُشرف عليها حرس الثورة الإسلامية الإيراني، وشاركت في أغلب معارك سوريا والعراق.
أمام هذه المتغيرات في حركة الميدان السوري، وعجز أميركا، ومعها كيان العدو، عن تحقيق الهدف الأساسي، وهو تفتيت سوريا، وتحويلها إلى إمارات متناحرة، والقضاء على المقاومة اللبنانية، تتجه أميركا وكيان العدو إلى عرقلة تحقيق الانتصار الناجز وتأخيره، عبر الضغوط الاقتصادية والعقوبات والحصار، ففي ما يرتبط بسوريا إن سيطرة القوات الأميركية على حقول النفط شمال شرق الفرات يكلّفها أعباء مالية كبيرة، وأزمات متكرّرة، وارتفاعاً في سعر الوقود، وخللاً في تشغيل محطات الكهرباء، وتأثيرات سلبية كبيرة في كل القطاعات الإنتاجية.
ما تعاني منه سوريا في قطاع النفط ينطبق أيضاً على الإنتاج الزراعي، وخصوصاً الزراعات الاستراتيجية، وتحديداً القمح والحبوب المختلفة، إذ تحوّلت سوريا من دولة تمتلك احتياطاً لخمس سنوات، إلى دولة مستوردة للقمح والأعلاف أيضاً، إذ كان للحرب نتائج سلبية على استثمار المراعي في أنحاء البادية السورية.
وبالرجوع إلى المسألة الأساسية، وهي استمرار الاعتداءات الصهيونية على سوريا، بذريعة استهداف القوات الإيرانية والمقاومة اللبنانية، يطالعنا وزير الدفاع في كيان العدو بتصريح يُعلن فيه منذ يومين بدء مرحلة طرد إيران من سوريا، وليس احتواء نفوذها فقط.
وممّا جاء على لسانه حرفياً: “ضعوا السمّاعات على آذانكم وانتظروا. ستسمعون وسترون أشياء، فنحن لا نواصل لجم نشاطات التموضع الإيراني في سوريا فحسب، بل انتقلنا بشكل حاد من اللجم إلى الطرد. أقصد طرد إيران من سوريا”.
يأتي كلام وزير دفاع العدو متزامناً مع عملية إعادة تموضع للقوات الأميركية من كركوك في العراق إلى الحسكة وحقول النفط في سوريا، ما يؤشر إلى دخولنا مرحلة أكثر تعقيداً، ستحاول فيها أميركا، بالتعاون مع كيان العدو، ضرب قواعد الاشتباك الحالية والمساكنة التي كانت قائمة، والتي كسرتها أميركا باغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، لنصبح أمام مرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل تنامي جائحة كورونا التي عقّدت الوضع العالمي برمّته، ولكنها لم تمنع أميركا وكيان العدو عن الاستمرار في اعتماد استراتيجية العدوان والاستفزاز.