تصاعدت وتيرة التقارير الصحافيّة التي تُفيد بأنّ لقاءات جمعت مسؤولين أمنيين سوريين بنُظرائهم الأتراك جرى خلالها بحث ترتيبات بشأن إطلاق عمليّة عسكريّة مُشتركة ضدّ مُسلّحين أكراد في الشّمال السوري، وخاصَّةً قوّات سورية الديمقراطيّة “قسد” وحزب العمّال الكردستاني، وإعادة إعمار حلب والمنطقة الصناعيّة فيها وعودة اللاجئين.
المعلومات الأوّليّة التي نشرتها صحيفة “تركيا” المُقرّبة من النظام تقول إنّ هذه اللّقاءات السوريّة التركيّة جرت في ميناء العقبة الأردني، وحضَرها مسؤولون أمنيّون من دولٍ أُخرى لم تُحَدِّدها، لكن هُناك تكهّنات تُرَجِّح أن هؤلاء المسؤولين من دولٍ خليجيّة، وخاصَّةً السعوديّة والإمارات ودولة قطر.
وما يُرَجِّح هذه التكهّنات أن تمويل عمليّة إعادة الإعمار في مدينة حلب والمنطقة الصناعيّة فيها سيأتي من هذه الدّول الثلاث، ودولة الإمارات العربيّة المتحدة تحديدًا التي يتردّد أنها تقف خلف هذا التّقارب الأمني السوري التركي.
الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان أجرى في الأشهر الأخيرة مُراجعات سياسيّة مُتعمّقة، تمخضّت عن العودة تدريجيًّا إلى سياسة “صفْر مشاكل”، وإصلاح العُلاقات بالتّالي مع مُعظم خُصومه في دول الجِوار، وخاصَّةً في مِصر والسعوديّة والإمارات، وهذا ما يُفَسِّر الانفتاح على هذه الدّول، والتّجاوب مع طلبات حُكوماتها بوقف الدّعم لحركة “الإخوان المسلمين”، وجماعات المُعارضة السياسيّة الخليجيّة الأُخرى، وإغلاق، أو تخفيف أنشطة هؤلاء ومنابرهم الإعلاميّة على الأراضي التركيّة.
هذه اللقاءات السوريّة التركيّة التي جرت في الأردن، ليست جديدة ولا مُفاجئة، فقد جرى ترتيب لقاء أمني سابقًا شمل اللواء علي المملوك نائب الرئيس السوري للشّؤون الأمنيّة، ورئيس المُخابرات التركيّة هاكان فيدان في موسكو وبترتيبٍ روسيّ قبل أشهر، ولكنّ الجديد في الأمر هو قُبول القِيادة التركيّة مُجَدَّدًا بالتّفاوض على تطبيق اتّفاق أضنة الذي جرى توقيعه بين البلدين عام 1998، واقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة إحيائه في القمّة الأخيرة التي عقدها في مُنتجع سوتشي الروسي مع الرئيس أردوغان، وانتهت دون اتّفاق حول هذه المسألة، والوضع في مدينة إدلب التي يُسيطر عليها المُسلّحون.
التّغيير الذي طرأ على الموقف التركي وتَمثّل في الرّغبة بالتّفاوض مُجَدَّدًا على جوهر هذه الاتفاقيّة، أيّ السّماح للقوّات التركيّة بالتوغّل داخِل الحُدود السوريّة بعُمق 35 كيلومترًا لمُطاردة المُسلّحين الأكراد، بدل خمسة كيلومترات مثلما تنص البُنود الأصليّة، هذا التّغيير يعود بالدّرجة الأُولى إلى قلق السّلطات التركيّة من تعاظم عمليّات هؤلاء المُسلّحين والتّمركز في الشّريط الحُدودي الشّمالي لسورية، واستِخدامه كمَلاذٍ آمِن، ونُقطة انطِلاق لهذه العمليّات.
ما زال من غير المعروف ما إذا كانت هذه اللّقاءات الأمنيّة ستتطوّر إلى أُخرى سياسيّة مُوازية سواءً على مُستوى رئيسيّ الجمهوريّة أو وزيريّ الخارجيّة، وبِما يُؤدّي إلى عودة العُلاقات بين البلدين الجارين، وتجنّب صِدامًا عسكريًّا في مدينة إدلب، ولكن هُناك من يُشَكِّك بحُدوث مِثل هذا التطوّر بسبب ما وصفه بالحقد الشّخصي الذي يكنّه الرئيس أردوغان لنظيره السوري بشار الأسد.
حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يُواجه أزمات داخليّة، اقتصاديّة وسياسيّة مُتَعدِّدَة، دفعته للانفِتاح على مُعظم خُصومه تقريبًا، وآخِرهم أرمينيا، باستِثناء سورية، ويبدو أن رئيسه أردوغان أدرَك جديًّا أن جميع التوجّهات الانفتاحيّة هذه تظَل محدودة النّتائج ما لم يتوجّه جنوبًا إلى الجارة السوريّة التي صمدت لعشر سنوات، وأحبط جيشها العربيّ المُؤامرة التي كانت تُريد تفتيتها، وإسقاط نظامها، ويتوصّل بالتّالي إلى اتّفاق جدّي يُعيد التّعاون معها في مُختلف المجالات لمُواجهة الأخطار المُشتركة، وأبرزها خطر الانفِصال الكُردي الذي يُهَدِّد البلدين ووحدتهما الترابيّة.
لا نستطيع الإغراق في التّفاؤل، لأنّ الرئيس التركي يُغيّر مواقفه بسُرعةٍ، ولكن تظَل هذه الخطوة، أيّ اللّقاءات الأمنيّة، على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة لسورية وتركيا معًا، شريطة أن تصفو النّوايا، والتركيّة بالذّات.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”