كتاب الموقع

لبنان والغول

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

أقلّه أن نحترم أنفسنا والآخرين.

لستُ أنا (ولا أنت) من يمكنه تقديم النُصح والإرشاد للمحقق العدلي. من الطبيعي أن يكون كفؤاً بما يكفي، وهذا أضعف الإيمان. أما التفرّغ لكيل الإتهامات العشوائية، فهذا يقوِّي “الخصم” ولا يُضعفه. وهذه ستكون مشكلة ثقيلة في حال كان مُتّهِموه على حق، إذا سيجعلونه أكثر قوة في الغيّ والظُلم، مما لا يخدم المصلحة المُفترضة. ربما لم يحسب الجماعة حساب هكذا حالة، ليس لأنهم أقل ذكاء من ضمان خط الرجعة، بل ربما لأنهم على يقين من أنهم يتجنّون… وهذه، في حال صحّت، تكون مشكلة أكبر. ولا أتمنّى إلا ألاّ تكون.

بعضنا يُصوّر البيطار كأنه غول مُتعامل مع الشرّ. وهذا أمرٌ قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، إلا أنه كاتهام يحتاج إلى دليل إثبات… خارج إطار اللغة الزقاقية الدارجة. وأفترض، إن كان افتراضي هاماً، أن على من يرفع التهمة أن يكون مُنصفاً، بمعنى أن يكون صادقاً، أي أنّ عليه إظهار الدلائل التي في حوزته… لا النوايا التي يختزنها في اليقين. والحقيقة أن ما أسمعه وأتابعه في وسائل “دبّ الصوت” لا يزيد ولا يختلف عن كونه استعراض نوايا القوم الكارهون له، وليس أدلّتهم المنطقية والواقعية. فهم يبنون غالباً على افتراضات يرون أنها ما ينبغي أن يكون، وليس ما هو كائن، وبالنهاية فإنهم يقدمون الإتهام على منطق غير متوازن. وهذه مشكلة ثالثة، إذ في هذه الزاوية الملعونة من الكوكب، قلّما تنفس المنطق هواءً نقياً. لذلك يكون المنطق عندنا هو ذاته الرغبة الدفينة والميل والنية، مثلما يكون الواقع ما يتمناه الشخص ويرى أنه ينبغي أن يكون، ليس ما هو ماثل على الأرض… ومن يعترض أو يُشكك يكون في بعض الأحيان (أي دائماً)، مأجوراً “يقبض من السفارة”. هكذا فسرعان ما تنتهي المواجهة بالنصر، ويتداعى القطيع إلى وليمة التشفّي.

هكذا وبهذه الطريقة الميتة انتصرنا على اليهود في فلسطين الـ 48 بجيش الإنقاذ، وهكذا رميناهم في البحر بلسان الشُقيري، وهكذا حطّمنا سلاحهم الجوي بـ”صوت العرب ــ أحمد سعيد”، وهكذا أيضاً وأيضاً نجحت “المخابرات المصرية” في “خوزقة” الاستخبارات الإسرائيلية في حلقات “رأفت الهجّان”… ولذا (بالتأكيد) كان انتصار “حزب الله” على الجيش الذي سمّيناه “لا يُقهر”، عجيبة العرب والبربر والتي لم يحبذوها… هؤلاء البشريون المستمرون في الاغتذاء على موائد التحاقد وكراهية كل آخر وكل ما هو جميل وباسم ومُنير، كما هو دأب اليهود عبر تاريخهم.

والحال فإن أيّ عتب على عروبتهم يكون خارج الموضوع. فالقوم مُنسجمون بالكامل مع تراثهم الحيّ المتواصل من خيبر، وهم سَدَنة الحاخامات منذ ما قبل الإسلام. لذا كان من الطبيعي أن يدفعوا ثم يدفعوا ثم يدفعوا من بترولهم الوقح حتى أوصلونا، بالاعتماد على  أنانيتنا المُفرطة وعنجهيتنا المتوحشة واعتدادنا الإستعلائي بقبيلتنا )… إلى ما نحن عليه اليوم، بلداً سائباً وبلا مدد، وقطعاناً بلا ماء ولا كلأ، نجوع ونعرى ونتطايف، وليس لنا غير أحفاد كسرى لإنقاذنا من ويلات قيصر، بينما العرب، الأخوة المزعومون، بعاربيهم ومُستعربيهم، ينقرون الدّف وينشغلون بالرقص كالقرود في معاهر الصهيونية المتمسلمة.

هذا الكلام لا يعني بالضرورة، ولا يعني أبداً، أن المحقق البيطار على حق أو على باطل، تماماً مثلما أنه لا يعني أن الأربعة المُتهربين مُذنبون أم غير ذلك. ففي بلادنا، وهذه حقيقة ثابتة نرفض الاعتراف بها، لا شيء البتّة يمكن الحسم فيه ، ولا أمر قد جرى حسمه منذ الشنفرة حتى ما بعد الإنتخابات…القطرية. لذلك كان تفاجؤهم واحداً واحداً، كتفاجؤ معظم اللبنانيين، بورود أسمائهم على أوراق المحقق العدلي. إنما لا بأس إن لم نعتبر كل هذا التفاجؤ كافياً لجعلهم فوق المثول أمام المحقق، لا بل إن تمنُّعهم عن المثول، زاد طينهم بِلّة، وهم الغرقى، فما خوفهم من البلل…!

اليوم، وقد استأنف البيطار الاستجواب، فمن الواجب الإنساني على من يناصبه العداء، أن يأخذ بنظر الاعتبار أن الرجل لم يكتفِ بالأربعة فقط، بل هو يشتبه أيضاً (كما ذكرت  الصحافة) بجاد معلوف (قاضي الأمور المستعجلة لأنه لم يتخذ قراراً بإتلاف المواد شديدة الاشتعال وشديدة الخطورة)، وبالمحامي العام التمييزي غسان خوري الذي بات معنياً بالملف إثر تنحّي المدعي العام التمييزي عويدات (لأنه أهمل التحقيق الذي جاء فيه أنّ هناك مواد خطرة إذا انفجرت ستُدمّر مرفأ بيروت، ورغم ذلك قرر حفظ الملف)… ودائماً (كما ذكرت الصحافة).

لذلك، ولأسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها صراحة، أعتقد أن في الأمر سرٌ ما.

لكن…

متى لم يكن في يومياتنا سرٌ لا يمكن البوح به…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى