لبنان: لماذا التوجّه شرقاً؟

زياد ناصر الدين | كاتب وباحث اقتصادي

منذ أن بدأ الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان في أواخر العام 2019، برزت إلى الواجهة طروحات سياسية – اقتصادية تدعو إلى اعتماد خيار التوجّه شرقاً كبديل للعلاقة مع الغرب، أو على الأقل كرديف لها، بعد أن أدى هذا الغرب تاريخياً دور الراعي للمنظومة السياسية المصرفية الفاسدة التي اعتمدت سياسات اقتصادية أدّت بالبلاد إلى التهلكة، فضلاً عن تنفيذها على مدى سنوات إحدى أكبر عمليات الاحتيال المالي المعاصرة، نتج منها في النهاية فقدان المودعين لأموالهم ومدخراتهم وانهيار الثقة بالقطاع المصرفي والدولة.

بطبيعة الحال، إنّ الغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لم يكن يوماً صديقاً للبنانيين أو العرب، بل استخدم بعض الزعامات السياسية القريبة منه، فحماها ومنع المسّ بها، وساعدها على توسيع شعبيتها وإحكام قبضتها على ثروات شعوب المنطقة، وغطّى سرقاتها التي أضعفت هذه الدول.

كلّ هذا لمصلحة جعل هذه البلدان تابعة للهيمنة الغربية وخاضعة للاحتلال، الذي، وإن تمَّ دحره منها عسكريّاً، إلا أنه بقي وتمدّد بدهاء في الدولة العميقة لكلّ بلد، حتى أحكم قبضته بدهاء على السياسة والاقتصاد والمؤسسات الأمنية والثروات وغيرها من ركائز الدول.

أضِف إلى ذلك أن الولايات المتحدة والمنظومة الغربية دأبت على استهداف كلّ من يخالف مشاريعها، وفي مقدمتها حماية “إسرائيل”، بحصار وعقوبات اقتصادية قاسية. ولو كانت صديقة لنا، كما تدعي، وتريد لبلادنا أن تكافح الفساد فعلاً لا قولاً، لكانت قد أنزلت هذه العقوبات بأتباعها في النظامين السياسي والمصرفي، وكشفت عن التحويلات المالية التي أجروها قبل الأزمة إلى مصارف في سويسرا وغيرها، بل كانت ستجبرهم على إعادة الأموال المنهوبة من جيوب الشعب وخزينة الدولة، إلا أنّ كل ذلك لم يحصل.

واستناداً إلى التجربة المدمّرة التي سيق إليها لبنان، خرجت الدعوات إلى التوجّه شرقاً. بعض هذه الطروحات يمكن أن يكون قد استند إلى دراسة معمّقة لهذا الخيار وتداعياته الإيجابية والسلبية على المدى الطويل. بالنسبة إلى آخرين، إنّ التوجه شرقاً يأتي انطلاقاً من رفض النموذج الغربي بكلّيته، من دون تحديد ملامح ‏واضحة للنموذج البديل.

وهناك فئات ترى فيه تكاملاً بين دول المشرق العربي، وأخرى تقليداً للأنظمة السياسية والاقتصادية، وفي بعض الأحيان الأيديولوجيّة، لدول الشرق، والبعض ينظر إليه بوصفه عمليّة استدراج لعروض صينيّة وروسيّة ‏وإيرانيّة وغيرها، بهدف إعادة تأهيل البنى التحتية (شوارع ونقل عام ومرافق عامة…) التي دمّرها الفساد ونظام الاقتصاد ‏الريعي.

لكن هل هذا هو المقصود فعلاً بالتوجّه إلى الشرق؟

إذا أردنا التمعّن في أصل الطرح، فهو نابع من رفض الهيمنة الغربية على القرار والسيادة والسياسة والاقتصاد بالحد الأدنى. وبناء عليه، إنّ مفهوم الشرق هنا أبعد بكثير من الاتجاه الجغرافي الحرفي للكلمة، بل يمتدّ إلى كلّ دولة وجهة رافضة لهذا الاستعمار بكلّ أشكاله، مثل بعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وغيرها من الدول التي عانت الاستكبار الغربي، وأثبتت لاحقاً نجاحاً كبيراً في نماذجها السياسية ‏والاقتصادية. هذه النماذج ‏تحترم خصوصيات الدول الأخرى في التعامل، وتُرسّخ علاقات هدفها الربح المشترك، وليس الهيمنة والغلبة.

إنّ خيار التوجّه شرقاً يحتّم الانخراط في برامج سياسية واقتصادية وثقافية متكاملة، إن كان في الدولة نفسها أو مع الدول التي يتمّ التشبيك معها. على سبيل المثال، إنّ السياسات التصنيعيّة يتم التّنسيق بينها وفق خطة مدروسة، ولا تترك لمزاج المستثمرين ومكاسبهم الخاصّة، فتكون بذلك منسجمة مع باقي سياسات البلاد (مالية وزراعية وأشغال عامة…) لتغذّي عملية النمو والتشبيك.

إضافةً إلى ذلك، يجب ألا يقتصر الخيار على بعض الاستثمارات الضّخمة في إعادة تأهيل البنى ‏التحتية وتطويرها، بل الانضمام إلى منظومات سياسية وأمنية ‏تحمي هذه البنى، وتساهم في تطويرها، كمنظمة شنغهاي مثلاً.

وعليه، لا يمكن اعتبار التوجه شرقاً عملية سهلة أو شعاراً رناناً يُستخدم لإغاظة فريق أو منظومة دولية، بل هو خيار بالغ التعقيد، ويجب أن ينتج من سياسة مدروسة بإحكام على المدى القصير والمتوسط والطويل، لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال رفض العروض المطروحة في الوقت الراهن، بل على العكس تماماً، يجب دراستها والقبول بها إذا أثبتت جدواها في مساعدة لبنان على الخروج من الأزمة الراهنة، فالتوجّه نحو الشرق يجب أن يبدأ من مكان ما، إذ إنّه في نهاية المطاف تحوّل في الفكر والذهنيّة، ‏يُترجم بسياسات وبرامج على مستويات مختلفة، وعملية التحوّل لن تكون ظرفيّة.

لماذا التوجّه شرقاً؟

وإذا كان التماهي مع الغرب سياسياً مضراً إلى هذه الدرجة، كما أسلفنا، ولكن على الصعيد الاقتصادي يجب المقارنة بين ما يقدّمه الطرفان. إنّ العروض التي قدّمتها إيران والصين وروسيا على الصعد كافة، لو قبل بها لبنان، لتجنَّب الانهيار الذي أصيب به.

ولو مررنا سريعاً على هذه العروض، لرأيناها مرتبطة بالمشاكل الحقيقية التي نعانيها كبلد، والتي رتّبت علينا ديوناً وفوائد دين باهظة، وفي مقدّمتها تأهيل البنى التحتية، من كهرباء ونقل عام ومرافئ وشبكة طرقات وغيرها، ضمن مهلة زمنية قصيرة، وبكلفة زهيدة بالمقارنة مع ما تكبّدناه حتى اليوم.

الأدوية والمواد الغذائية عُرضت أيضاً على لبنان بأقلّ التكاليف الممكنة، وتلقّت الطّبقة السياسية أيضاً عروضاً ببناء معامل أدوية وأغذية في البلاد، من دون أن تعير الأمر اهتماماً. أما النّفط ومشتقّاته، فحكاية أخرى، إذ لا يمكن لعاقل أن يتخيّل أنّ لبنان رفض عروضاً بدفع ثمن البنزين والمازوت بعملته المحلية (الليرة اللبنانية)، واستعاض عن ذلك باستخدام احتياطي العملات الأجنبية لشرائها من مصادر أخرى!

لسنا هنا في وارد تعداد الامتيازات والعروض التي يمكن أن يحملها خيار التوجه شرقاً، بل هي أمثلة سريعة للسؤال عن دور الغرب في هذه الملفات وغيرها. الإجابة واضحة وسهلة. الغرب ليس غائباً تماماً عن أي مساعدة فحسب، بل هو متآمر أيضاً في حصار لبنان داخلياً، من خلال الطّبقة الفاسدة التي يحميها، وخارجياً من خلال العقوبات والحصار المالي غير المعلن الّذي تمارسه واشنطن وبعض العواصم الأوروبية.

 

الميادين نت

Exit mobile version