لبنان بين سلطة القرابات والهيمنة .
الدكتور روبير بشعلاني | استاذ جامعي وباحث .
القرابة متحد اجتماعي شامل يعمل كمنشأة في التوزيع الاقتصادي وكجيش في الميدان الصراعي وكحزب في المجال السياسي.
وبما ان الملك، او السلطة، مفتاح المغانم والثروات الطبيعية التي تتيح اعادة انتاج القرابة، فمن الطبيعي ان تظهر القرابة كعصبية سلطة اكثر من اي شيء آخر.
من هنا تعمل القرابة على توسيع قوتها سواء من داخلها ان من خارجها بالمصاهرة والتحالف او باستعمال الرابط الديني كذريعة قرابة.
ومن هنا فهي تارة رحمية، تعتمد على النسب والدم، وطورا روحية ويطلق عليها اسم “العائلات الروحية”.
والعدد في القرابة مسألة حيوية ليس لكسب الاصوات فحسب، بل لتشكيل عسكر القرابة واداة الضغط لتحقيق الغلبة وحق الانتفاع من ثروات الطبيعة . وهي
في هذا المجال تتباهى بقوتها وتظهرها خلال المناسبات والاعياد لكي ترسل رسائل مشفرة للقرابات الاخرى حول الاوزان والاحجام.
وفي اطار اقتصاد الريع، اي في اقتصاد الثروات الطبيعية، وبعد الغلبة تعمل القرابة على توزيع المغانم على اعضائها عبر وسائل مختلفة اهمها تقنية الواسطة التي تشد الروابط القرابية بعضها الى بعض من الادنى الى الاعلى، من القرية والريف الى المدينة والمركز.
واهمية الواسطة هذه انها تكرس الانتماء اولا لدى طالب الخدمة ولدى مانحها، في الوقت ذاته الذي تكرس التوزيع كمصدر شبه وحيد للمعاش والبقاء.
وهذا النمط الذي تكرسه طبيعية القيم الاقتصادية الخام ليس نمطاً اختيارياً بقدر ما هو معطى موضوعي ينظم الاجتماع وفق افضل الاشكال الملائمة لبقاء النوع.
فالناس لا تختار انتماءها بقدر ما الانتماء يختارها. فالانتماء لا يتم وفق “قناعة فكرية” او اختياراً برنامجياً لإدارة “الشأن العام”، بقدر ما هو تسليم بقضاء النمط وقوانينه وطبائع المعاش.
اما ميادين التوزيع فمتعددة تبدأ بحق الانتفاع، فالملك لله وحده، وحجم الحيازات، ونوعها، وهي غالبا رهن وزن القرابة الصغرى، مروراً بالتجنيد والتوظيف في مراتب الملك وحاجاته الادارية، وصولا الى انواع من التوزيع القائم على اقتطاع حصص من قيمة القوافل والصفقات التجارية لقاء ضمان سوقها واحتكارها وامنها.
وكل هذه الميادين لم تشهد تغيرات جوهرية حتى اليوم بالرغم من تعرضها لتغييرات بالشكل او الكم.
فالوكالة الحصرية مثلاً شكل جديد او امتداد لنشاط القوافل يضمن السوق والاحتكار والامن ويمنح من قبل القرابة او القرابات الغالبة، السلطة.
و”الاملاك البحرية” والكسارات شكل جديد مثلاً لمنح املاك السلطة لرعايا القرابة او القرابات الغالبة.
القرابة اذن، سواء رحمية أم روحية، ليست جسماً عقائدياً بقدر ما هي ناظم اجتماعي في نمط معاش خاص يضبط ادارة وتوزيع الثروات الطبيعية خصوصاً.
ولهذا نلتقي بها في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الرياضية والثقافية .
فضلا عن ذلك فان القرابة تضمن السلم الاهلي والانسجام داخلها اذ تشرف عبر الواسطة على ضمان وصول الريع الى كافة شرائحها البعيدة منها والقريبة، الفقيرة والثرية، كل بحسب مرتبته.
فهي التي تشرف على التوظيف والترشيح والاجور والاسعار ونزاعات العمل وفض الخلافات ايا كان مصدرها.
وطالما بقيت مصادر المعاش “طبيعية”، اي ريعية، فإن القرابة سوف تبقى هي الشكل الاجتماعي التاريخي لتنظيم الناس الاجتماعي ومن غير الممكن توقع نشوء اجسام اجتماعية غربية على قاعدة هذا الشكل من المعاش.
غني عن الاشارة هنا القول بأن الهيمنة الغربية التي لا تهتم الا بنهب المواد الاولية في بلادنا قد عززت المعاش الطبيعي وحصنت هذا الشكل الاجتماعي كذلك بضمان حماية أمن اطرافه التابعين.
والطائفة شكل روحي للقرابة وهو امتداد للقرابة الرحمية وليس ” كنيسة تتحالف مع الاقطاع” كما يظن الاورومركزيون، كما انها ليست الدين ،كما يظن الثقافيون المتنورون النهضويون البروتستانتيون العرب.
وللبحث صلة.