د. عدنان نجيب الدين
يرى كثيرون أنّ عدم تطبيق الطائف أو سوء تطبيقه هو ما أدّى إلى الحالة التي نحن فيها. أما الصحيح فهو انّ الطائف بحدّ ذاته يحمل في طياته بذور فشله وحالة الفساد التي وصلنا إليها بسبب المحاصصة الطائفية والمذهبية التي عكست حالة توازن القوى بعد الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان من 1975 الى 1990، هذا فضلاً عن السياسات الاقتصادية الخاطئة التي طبّقت لصالح من تولوا السلطة طيلة هذه المدة.
اتفاق الطائف أدّى إلى فقدان رئاسة الجمهورية صلاحياتها إلى أبعد الحدود، وبالتالي أقفلت أمامها القيام بالدور اللازم المؤدي إلى فتح الأبواب الموصدة اذا ما تأزّمت الأمور. البلدان الديمقراطية تترك في نظامها الدستوري إمكانية العودة إلى الشعب من خلال حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة لإعادة تشكيل السلطة، أو الذهاب إلى استفتاء على برنامج إصلاحات كما فعل الجنرال ديغول في 1968.
لكن نظام الأحزاب الطائفية الذي سمح به اتفاق الطائف أتاح لهذه الأحزاب إمكانية السيطرة على الحركة السياسية في البلاد والتحكّم في العصبيات وإثارتها عند كلّ مفترق سياسي مما جعل التحكم في البلاد والعباد في يد بضعة «زعماء»، فتأتي نتيجة الانتخابات دائماً بنفس القوى مما يشكل حاجزاً منيعاً في وجه أيّ تغيير. وهذا ما أدّى إلى ابتداع ما يسمّى بالديمقراطية التوافقية التي انعكست في تأليف الحكومات الجامعة لكلّ القوى الحزبية والتكتلات النيابية، فوصلت الأمور الى حدّ تشريع الفساد وقوننته من خلال تغييب القدرة على المساءلة والمحاسبة بحيث أصبح التصدي للفاسدين يُنظر إليه وكأنه اعتداء على طائفة الفاسد، ولا داعي للتذكير بالأسماء والعناوين.
هكذا أوصدت الأبواب أمام التطوّر باتجاه إيجاد الحلول للأزمات، ومنعت انتهاج سياسة اقتصادية إنتاجية مما أدى إلى إغراق البلد في الديون نتيجة السياسات الحكومية المالية والاقتصادية وانعدام المشاريع التنموية وإهمال قطاعي الصناعة والزراعة وعدم دعمهما ليكونا عماد الاقتصاد إلى جانب النظام المصرفي والسياحة، فازداد الفقر، وازدادت معه العصبيات الطائفية والمذهبية…
ما المطلوب اليوم؟
البلد في حالة انهيار مالي واقتصادي، والنظام السياسي في حالة إفلاس، فهل باتت غالبية الناس مقتنعة بأنّ عدداً كبيراً من المسؤولين كانوا يعملون لزيادة ثرواتهم وثروات حاشياتهم على حساب الجماهير، وأنّ غياب المشاريع التنموية كان يصب في مصلحة هؤلاء القابضين على أزمة الأمور: لا كهرباء ولا ماء ولا طبابة ولا فرص عمل ولا دعم للتعليم الرسمي ولا ضمان شيخوخة، ولا طرقات ولا بيئة نظيفة ولا أيّ خدمات تمكن المواطن من العيش طبيعياً كمواطن في دولة تحترم نفسها وتحترم مواطنيها…
وجاءت الكارثة الكبرى بانفجار المرفأ الذي كشف كلّ العورات…
هنا بدأ المواطن يشعر بضرورة تغيير النظام والتوجه إلى دولة عصرية مدنية ليحصل على حقوقه كما في ايّ دولة من دول العالم المتمدّن، من دون التزلف لمسؤول هنا أو هناك، والانضمام الى حاشيته مما أفقد الدولة دورها كحامية للمواطن ولمصالحه.
المشكلة أن هؤلاء المسؤولين أنفسهم هم من يُفترض فيهم دستورياً تغيير ما هو قائم، فكيف الحل؟
الانتفاضة الشعبية لا تزال قاصرة عن القيام بدورها التغييري التاريخي، بمعنى أنّ رفض ما هو قائم لا يكفي ولا يقدّم الحلول. فالثورة لها موجباتها، لها فلسفتها ولها قيادتها وهي غير موجودة، ولها برنامجها وهو مفقود. ولها أبطالها التاريخيون وهم غير موجودين.
إذن نحن لسنا في ثورة بل مجرد حراك أو انتفاضة شارك فيها مواطنون أحرار، لكن ركب موجتها بعض التيارات السياسية الطائفية والمذهبية لسرقتها وتجييرها لصالح بعض هذه الجماعات الحزبية والاستفادة منها لتعزيز مراكزها في النظام القائم.
المطلوب اليوم ان تعقد القوى التغييرية مؤتمراً وطنياً تشارك فيه كلّ فئات الشعب صاحبة المصلحة في التغيير، من مفكرين وعلماء وعمال وفلاحين وتربويين وقطاعات اقتصادية وشبابية وعاطلين عن العمل إلخ… ولتقدّم أوراقاً إصلاحية يجري دراستها وغربلتها والتوصل إلى صيغة جديدة للنظام السياسي للبنان، مع وضع سياسة دفاعية وتسليحية للجيش اللبناني الباسل تستفيد من قدرات المقاومة وتتكامل معها لردع العدو «الإسرائيلي» عن النشاطات العدوانية ضدّ بلدنا، او التفكير بشنّ حرب عليه أو سرقة ثرواته. فإما أن يجري إقرارها ضمن الأطر الدستورية وإما ان يدفع بالطبقة الحاكمة إلى التنازل عن السلطة لكن من دون إراقة أيّ نقطة دم حفاظاً على السلم الأهلي، وذلك بضمانة الجيش اللبناني والقوى الأمنية باعتبارهما قوى تحمي الشعب ولا تحمي المتسلطين عليه وعلى ثرواته.
البناء