محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني
تلك اللحظات الطويلة المُرعبة التي بدا لي أنها لن تنتهي، تبدو لي اليوم، وقد أطفأ مرور عام شيئاً من حضورها الثقيل، أنها كانت درساً ثميناً لي وللكثيرين ممن عاشوها وعبروها أحياء وهم الآن على قيد الحياة. لحظات كانت صاعقةً واسطورية حتى بالنسبة للبناني عاش حروب البلد المتناسلة، والكثير غيرها في بلاد أخرى قريبة وبعيدة.
دويٌّ هائلٌ لم تعرفه الأذن من قبل. موجة ضغط لا تُقاوَم ألقت بي أرضاً مثل ريشة عصفور مذعور، ومعي الطربيزة وماغ النسكافيه والستارة القريبة وذلك الباب الثقيل من الألومينيوم وقد انتُزع هلوعاً من إسمنت جداره وارتمى علينا من طبقة عالية في البناية المجاورة، كأنما مُستجيراً، ليستقر على بُعد خطوة قصيرة، وحوله شظايا شريرة من زجاج كان يحتضنه قبل لحظة. لن أنسى مشهد أرض الشارع أمامي وقد أخذت تموج كما لو كانت “حائصة” تحاول عبثاً التفلّت من هذا الرّعب الذي هبّ عليها من جحيم مجهول.
كنت أحاول استعادة روعي لأقف على ساقيّ وعيوني تسبقني إلى فوق…تبحث عن موقع سقوط ذلك الصاروخ الوحشي المفترض أنه استهدف الطوابق العليا من البناء المجاور. حين وقفتُ أخيراً على قدميّ وتفقّدت صديقاً كان هو الآخر يلملم جسمه وروعه عن الأرض إلى جانبي، عُدت لأحدّق إلى فوق بنظرات اختلط فيها التساؤل مع الرُّعب مع الحيرة مع الإنشداه والمزيد من الاستفهام… لكنني لم أرَ أحداً ولا شيئاً… غير جارنا الشاب المُجرّب حروباً شتى (ندم عليها في ما بعد) وقد سارع متمالكاً رُشده (قبلنا جميعاً) يجري في الشارع أمامي بخطوات متسائلة باتجاه الشرق… فأسرعت خلفه وتجاوزت البناء الضخم على زاوية الشارع لييجتذبني ذلك المشهد المُخيف الذي سيبقى محفوراً في الذاكرة: كتلة دُخانية مُرعبةٌ في الأفق القريب إلى الشرق، تتفاعل وتتقلّب مثل عشيرة من الأفاعي النهّاشة تُخاصم تفاصيلها ومكوّناتها، وقد التفّت بها ألوان غريبة ومُذهلة لم يعرف مثلها الدخان من قبل، حيث اختلط الأسود الفاحم بالأحمر الدموي بالبرتقالي السام بالرمادي الحائر بألف لون ولون، لتخرج من كل ذلك تشكيلات تبعث على القشعريرة. منحتني تلك الغمامة الأبوكاليبسية اللئيمة، شعوراً بطعم يوم القيامة كما تتراقص أوصافه في مخيلة ينهشها الرعب.
حتى تلك الآونة لم أكن قد فهمت شيئاً مما يحصل، اللهم إلا أن “الضربة” كانت غير بعيدة عن حيّنا إلى الشرق الشمالي على طرف الأشرفية كما قدّرت، أو أبعد قليلاً نحو البحر… وطفت في جبيني صورة مستشفى الكرنتينا القريب من مركز عملي السابق.
أول ما اعتصر قلبي ألماً كان اعتقاد عابر بأن المستهدف كان مراكز الجيش، وهي كثيرة في محيط المستشفى. شعرتُ بانقباض حاد في الصدر… وبملوحة دموعٍ خانت تماسُكي أمام مخيلة لعينة ملأتها اشكال أجسام أليفة مرقّطة وقد مزّقها صاروخ العدو. وبسرعة راحت وجوه رفاق العمل تتنافس في جبيني الذي أدمته نثرة زجاج. مشهد الدم، دمي، أعادني إلى الحياة والواقع، فانتشلت الهاتف من جيبي؛ لكن الاتصال كان مستحيلاً. وبدا لي أنني أسمع عبارة غريبة: “بالبور”… وفهمت أن الأمر الكبير حدث في المرفأ… لماذا المرفأ؟ ماذا يوجد في المرفأ؟ وماذا تريد إسرائيل من المرفأ في هذا الوقت المتأخر !
قبل أن أستعيد أنفاسي تذكرت رفيقة العمر وبيتي في الطرف الآخر من الحي. ركضت وعلى وجهي كل هموم الحروب والكوارث. مسحتُ اثر الدم عن جبيني جيداً فإذا زجاج الأبواب على شرفاتي يولول ضارعاً وقد هشّمته مطرقة الوحش. هرعت إلى البيت فوجدت الأحبة بخير والحمد لله… مع شظية زجاج صغيرة في ساق والدتي، لم تكن تشعر بها. الشباب بخير والحمد لله، خاطبتني زوجتى خلال معانقتنا الثلاثية مع والدتي. وكما لو أنني ما أزال طفلها الصغير، قالت الوالدة تطمئنني: هيدا ولا شي.. “هِبش زغير” مشيرة إلى ساقها المدمّاة.
وشيئاً فشيئاً راحت صورة الكارثة تلملم تفاصيلها البشعة. السفينة والمفرقعات والزيوت وأكياس نيترات الأمونيوم ورؤساء الحكومات والقُضاة والوزراء والزيارة الاستعراضية التي كان قام بها الرئيس الحريري للمرفأ منذ مدة وعلى رأسه تلك القبعة البلاستيكية المُضحكة، والزيارة الأخرى التي كان الرئيس حسّان دياب يزمع القيام بها للمرفأ قبل أن يقنعه في آخر لحظة، رئيس مجلس الدفاع الأعلى بصرف النظر عنها، كما ورد في الإعلام، وجميع أجهزة الأمن والمراقبة والمتابعة، مع موظفي الإدارة المدنيين الذين أثراهم العمل في البور، وصولاً إلى عامل اللِحام المشهور الذي استُقدم خصّيصاً لإكمال مشهد الرواية السمجة نصف الرسمية، وذلك العنبر الرقم 12 الذي يختصر جمهورية ملغّمة يُتاجَر بمحتوياتها وبأجزائها حُرّاسها من قضاة ومُدراء وأمنيين وسواهم من المكلّفين بحمايتها… وحمايتنا.
لم أعرف حتى الآن ما الذي جرى حقاً في المرفأ. ولا أحد غيري قال إنه يعرف… كأن الحقيقة ابتلعها القبر مع ضحاياها. سنة ثقيلة انقضت وما يزال زورق”التحقيقات” داخل المرفأ، لم يباشر رحلته. الصبايا الورود والشبان السنديان وباقات المتواجدين بموجب قدرهم والعابرين والمجاورين… كل هؤلاء الأضاحي على هيكل عنبر التهريب والمتاجرة والنهب وأيضاً التآمر وسفالة الحصانات، كل ذلك لم يُلزم القانون المحلي بأي فعل أو رد فعل أو واجب. النتيجة الوحيدة: صفر مكعّب. من يُصدّق!.
قال لي بائع الموز: لا تستغرب. فنحن لسنا أهم من أميركا. سبق أن اغتيل أحد أبرز رؤسائها، جون كينيدي، ثم اغتيل الذي اتُهم باغتيال الرئيس، ومضى سر الحقيقة إلى القبر.
لم يقنعني كلامه، لكن منظر الموز كان مُغرياً.
أما الذين خسرتهم من أحبة في تلك المقتلة، فلا أحد غيري يعرف من قتلهم. واعلم أيضاً علم اليقين أن لا أحد يجرؤ على أن يسمعني أكشف عنهم، لذا لن أفتح فمي… فالحياة عزيزة أحياناً.