العميد شارل ابي نادر | كاتب وباحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
كالنار في الهشيم، تتمدد حركة “طالبان” مكتسحة الولايات الأفغانية، الواحدة تلو الأخرى، وكأنه لا يوجد في مواجهتها جيش مجهّز ومدرّب لفترة تجاوزت 20 عاماً على أيدي وحدات عسكرية من المفترض أنها الأقوى في العالم (المقصود الأميركية).
وبعد أن سيطرت الحركة في اليومين الأخيرين على 5 عواصم ولايات من الولايات الأفغانية، وأهمها مدينة قندوز وساري بول وتالقان، كان لافتاً – مؤخراً – ومنذ بداية الاشتباكات التي انطلقت مباشرة بعد قرار الانسحاب الأميركي الغريب، وبشهادة سكان تلك المدن، أن المسؤولين الرسميين والقوات الأمنية فروا بعد أن فشلت الحكومة في دعمهم وإرسال المساعدات إليهم.
صحيح أن السيطرة على قندوز تشكل أهم نجاح عسكري لحركة “طالبان” منذ بدء الهجوم الذي شنته في أيار/مايو، مع بدء انسحاب القوات الدولية، والذي يجب أن ينتهي بحلول 31 آب/أغسطس، لكونها تحضن أهم مفترق طرق استراتيجي في شمال أفغانستان بين كابول وطاجيكستان، ولكن للسيطرة على قندوز وتوسيعها في الشمال والشمال الغربي والشمال الشرقي، انطلاقاً من الأخيرة، أكثر من بعد عسكري وميداني، يُترجِم بلا شك أحد أهم عناصر المناورة الأميركية التي أطلقوها من أفغانستان بالتزامن مع الانسحاب المذكور.
في متابعة لجغرافيا منطقة التحرك الميداني حالياً لحركة “طالبان”، يمكن ملاحظة تركيز عملياتها العسكرية لناحية التقدم والسيطرة شمالاً باتجاه حدود طاجيكستان وأوزبكستان، وشمال غرب باتجاه الحدود مع إيران، إذ تشكل مدينة هرات (شمال غرب) الهدف المرتقب لإكمال سيطرة الحركة في أقرب وقت ممكن.
هذا التركيز شمالاً وشمال غرب يترافق مع استبعاد التقدم حالياً نحو العاصمة كابول، في الوقت الذي كان من المفترض ذلك تماشياً مع استراتيجية الحركة لاستهداف السلطة وإسقاطها، إذ صرّح الناطق باسم حركة “طالبان”، ذبيح الله مجاهد، مؤخراً: “إنّ قرار دخول طالبان كابول لم يُتَّخَذ بصورة نهائية”.
في الواقع، ومن خلال تقييم مسار تقدم حركة “طالبان” والإجراءات العسكرية والميدانية التي اتخذتها الحكومة بمواجهتها، بدعم (غير واضح وغير مفهوم) من الأميركيين، يمكن استنتاج ما يلي:
في الحقيقة، وانطلاقاً من وضعية الميدان حالياً، يمكن القول إنه لا يوجد أي دعم جدّي وفعلي من الوحدات الأميركية لحكومة أفغانستان، فكيف يُترجم هذا الدعم؟
على الأرض تتقدم حركة “طالبان” بهذه السرعة الجنونية، مكتسحة عواصم الولايات الأكثر أهمية في البلاد، ومتجاوزة التغطية الجوية الأميركية القادرة (لو أرادت) على إقفال جميع منافذ وطرق التقدم والانتقال بشكل كامل، مع القدرة على تدمير جميع آليات الحركة وعناصرها تماماً، كما كانت تنفذ تلك القوة الجوية عملياتها خلال كامل فترة احتلالها لأفغانستان.
جاء خبر استعمال الأميركيين للقاذفات الاستراتيجية “بي 52” في استهداف وحدات “طالبان”، والذين كعادتهم أعطوه أهمية ضخمة في الإعلام العالمي، ليزيد من الشكوك حول فعالية هذا الدعم، ففي الوقت الذي تتغلغل وحدات مشاة الحركة المذكورة في المدن والمناطق السكنية، وهي تحتاج في الحد الأقصى إلى طوافات تكتيكية لمواجهتها، يبقى دور القاذفات الاستراتيجية “بي 52” وغيرها، والمخصصة لاستهداف الملاجئ وغرف العمليات والمخازن المحصنة، غير ذي جدوى من الناحية العسكرية، حيث تنتشر عناصر “طالبان”، وتنتقل كمشاة، وبآليات خفيفة. ومن الطبيعي أنها في هذا التحرك والمناورة التي تنفّذها حالياً، تركت تلك الملاجئ والأنفاق التي تستهدفها القاذفات الاستراتيجية.
الملاحظة الأخرى المهمة التي تستدعي التوقف عندها: كيف تُركت وحدات “طالبان” في مرحلة تحركها الأولى، وخلال حوالى شهر تقريباً بعد بدء انسحاب الوحدات الأميركية وحلفائها، من دون أن تُستهدف أو تتم معالجتها بالقاذفات والطوافات الغربية الفعالة؟
الغريب أنه فقط بعد أن وصلت “طالبان” بسهولة إلى محيط أغلب المدن والمقاطعات الأفغانية ومداخلها، جاء قرار استهدافها – وبالقاذفات الاستراتيجية – والتي تملك مخزوناً ضخماً من القنابل القديمة التي أصبحت بحاجة إلى التخلص منها.
انطلاقاً من هذه الملاحظات الميدانية والعسكرية، والتي تطبع المواجهة حالياً داخل أفغانستان، إذ تشير تلك الملاحظات إلى دور أميركي واضح في تسهيل انطلاقة حركة “طالبان” وتمددها وانتشارها وسيطرتها على عدة مدن وولايات حيوية، مع الإيحاء طبعاً بعكس ذلك تماماً، كما تعودنا على مناورات الأميركيين الخداعية..
وانطلاقاً من استراتيجية “طالبان” (الموجهة) أيضاً أميركياً بطريقة غير مباشرة في التقدم والتركيز نحو شمال وشمال غرب أفغانستان بعيداً عن الوسط، حيث العاصمة كابول والسلطة الأفغانية، وتحديداً نحو حدود طاجيكستان وأوزباكستان وإيران…
وانطلاقاً من الخوف والحذر والخشية الروسية، والتي عبَّرت موسكو عنها عبر تسارع وتزايد الحراك العسكري والميداني الروسي، بالاشتراك مع دول حدودية مع أفغانستان، حيث تشهد تلك الحدود نشر وحدات مشتركة تحت غطاء مناورات عسكرية روسية – أوزبكية أو روسية – طاجكية أو روسية – تركمانية، بعد أن أشار المكتب الصحافي للمنطقة العسكرية المركزية في الجيش الروسي إلى أنَّ القوات الروسية وقوات تلك البلدان ستتدرب خلال المناورات على الحدود مع أفغانستان على تنفيذ مهام متعلقة بـ”ضمان وحدة أراضي تلك الدول”..
وانطلاقاً من الاستعدادات والتخوفات الإيرانية على حدودها مع أفغانستان، بعد سيطرة “طالبان” على منفذ “دوغارون” الحدودي بين البلدين، ومحاولات الحركة السيطرة على كامل الحدود مع إيران، مع غياب شبه كامل لقدرة الوحدات الأمنية والعسكرية الأفغانية على مسك تلك الحدود أو الثبات عليها..
انطلاقاً من كل ذلك، يمكن القول إن هدف الاستراتيجية الأميركية التي رُسمت انطلاقاً من الانسحاب المفاجئ والغريب من أفغانستان هو أبعد من عودة جنودهم إلى أرض الوطن، وأبعد من التخلص من الحروب المكلفة وغير المفيدة للولايات المتحدة الأميركية.
كما يبدو، هذا الهدف يتمحور حول خلق بؤرة نزاع شبه دولية في الشرق انطلاقاً من أفغانستان، والتي ستصبح مع هذه المناورة الأميركية الدولة المتخبطة بحرب أهلية طويلة والمُشرَّعة الحدود وغير المضبوطة، بحيث تصيب هذه البؤرة بتداعياتها الأمنية والإرهابية والسياسية والديموغرافية والدينية كوكبة كبيرة من الدول المناهضة في سياساتها للأميركيين، مثل روسيا والصين وإيران وبعض دول آسيا الوسطى القريبة من توجهات روسيا.