د.عقيل سعيد محفوض – باحث وكاتب واستاذ جامعي متخصص بالشؤون التركية والشرق أوسطية.
سورية بلد تجتمع فيه متناقضات كثيرة، أكثر صور الوعي الإنساني بداوة وأكثرها حداثة، أكثرها انفتاحاً وأكثرها انغلاقاً، أصولية وحداثة، تطرفاً واعتدالاً، تديناً وعلمانيةً، وهذا يجعله مفخخاً بالعنف والاقتتال إذا ما توافرت ظروف مناسبة أو محفزة.
السؤال المطروح بين السوريين اليوم هو: لماذا لم تقم هوية وطنية مستقرة في سورية حتى بعد مضي قرن على قيام الدولة الحديثة فيها، وما الذي كشفت عنه الحرب الدائرة في البلاد منذ قرابة عقد من السنين، وكيف لبلد مثل سورية متعدد الأديان والمذاهب والأعراق والثقافات والبنى والتكوينات الاجتماعية أن تقوم فيه هوية وطنية مستقرة؟
التنكر لـ الدولة!
لم يقتنع السوريون بأن ما حدث في بدايات القرن العشرين من تأسيس للدولة الحديثة (دولة الاستعمار)، وحتى “دولة ما بعد الاستعمار” أو ما توافقوا على تسميته بـ”الدولة الوطنية”، كان هو الاستجابة الصحيحة حيال التحديات أو السبيل الصحيح لـ “العودة إلى التاريخ”، ولم يؤمن أحد منهم تقريباً بـ “نهائية الهوية” و”نهائية الكيان”، بمعنى نهائية الهوية السورية ونهائية الدولة في سورية، ومن ثم فإن أي هوية هي هوية ناقصة ومفروضة، وبالتالي يجب أن تكون مؤقتة.
وهكذا، كانت الفكرة العروبية أو الفكرة الإسلاموية أو الأممية أو حتى فكرة “سوريا الكبرى” و”الهلال الخصيب” -وهي جميعها أفكار عابرة للدولة- أكثر قدرة على الاستقطاب الاجتماعي والثقافي والسياسي في سورية. ومن ثم لم تكن ظاهرة الدولة والهوية الوطنية موضوع اهتمام جدي في الدرس السياسي والسوسيولوجي والمعرفي.
الهوية الشبح!
ثمة إخفاق في “اختراع تقاليد” وضعية وطنية، أو حتى تعزيز أو تطوير تقاليد قارَة أو متأصلة موجودة في المجتمع. وتراجَعَ الاهتمام بالمناسبات الوطنية بشكل كبير حتى أصبحت عبارة عن عطل سنوية أو مقالات في صحف غير مقروءة أو تقارير في قنوات إذاعية أو تلفازية غير مُتابعة.
تَوَافَق نزوع التدخل والهيمنة الخارجية مع قابلية التلقي والتأثر الداخلية بأن أصبح الاجتماع السوري قابلاً لـ “الغزو”، وهذا لا يخص شريحة من الاجتماع إنما أكثر الشرائح: الأغنياء والفقراء، المتدينين وغير المتدينين، حتى بين فواعل السياسة والثقافة، من جهة النظام السياسي وغيره. وحدث “اختلال” أو “اهتزاز” فكرة الوطن وفقدان الأمل بالمستقبل وتزايد الدوافع للبحث عن الفرص أو المعنى في الخارج.
في لحظات التأزم والاختلال، وتراجع عائد السياسات وانخفاض التوقعات منها … يحدث أن تتهيأ بيئة قابلة لكل شيء تقريباً. هنا، يمكن ملاحظة كيف أصبحت إمارة دبي مثلاً، وإلى حد ما مدن مثل بيروت والدوحة واسطنبول وغيرها، موئلاً لأبناء وعائلات وأموال وطموحات شخصية لدى فواعل ونخب سورية.
وملاحظة كيف أصبحت الدولة والمجال العام والأملاك العامة موضوعاً للاستهداف بغرض “التدمير” أو “الغنيمة”، سواء بالعمل المسلح أو التعدي أو السرقة أو الفساد … نمط اشتغل بموازاة الحرب وبالتمفصل معها.
أزمة كاشفة
أظهرت الحرب في سورية منذ آذار/مارس 2011 إلى أي حد وصل “تآكل” و”إجهاد” الهوية الوطنية فيها، وكذلك “إجهاد” الرأسمال الاجتماعي والثقافي، وحدوث عملية “تحول” سوسيولوجي ورمزي في نظم القيم واتجاهات التفكير حول الهوية والانتماء، وذلك بفعل عوامل عديدة، ربما كان في مقدمها:
– الطبيعة “المُعَنِّدَة” لنظم القيم والتفاعلات الاجتماعية والهويات، التي لم تتمكن الدولة الحديثة من “خلخلتها” أو “إعادة بنائها”، بل مثلت تحدياً اضطرت الدولة أو النظم السياسية المتعاقبة لـ “مجاراته” و”مهادنته”.
– إخفاقُ أو تَعَثّر السياسات العامة نفسها، في الاستجابة للتحديات المتزايدة في الداخل والخارج.
– حدثَ تصدُّع ونكوصٌ مريع إلى هويات أكثر تجذراً وقدرة على تحريك التكوينات الاجتماعية على قاعدة المِلل والنِّحَل والطوائف والقبائل أو على قاعدة الريع والاختراق والاستتباع الخارجي.
وهكذا، فقد أظهرت الحرب أن الهوية الوطنية لم تكن راسخة بالقدر الذي يعصم البلد من انفجار الهويات الأخرى، ما دون الوطنية أو ما دون الدولة، وبروز هوياتٍ وأنماطُ قيم عابرة للحدود، كما لو أن “العقد الاجتماعي” المؤسس للدولة الوطنية في سوريا كان مُفخّخاً، وأمكن تفجيره بكيفية حيَّرَت الجميع تقريباً.
التمسك بالدولة
لكن الأمور لم تكن وحيدة الاتجاه، فقد أظهر المجتمع أو شرائح كبيرة منه تمسكاً عالياً نسبياً بالهوية الوطنية وبالدولة، إذ بقيت مناطق رئيسة في البلاد والخط العام للتكوينات الدينية والمذهبية والعرقية خارج دائرة الاستقطاب الهوياتي. وحدث أن كتلة اجتماعية كبيرة من مناطق المواجهات في أرياف إدلب وحلب وغيرها لجأ أو نزح داخلياً إلى المنطقة الساحلية أو “مناطق الدولة”.
ولم تظهر –حتى الأن- قابلية جدية لأفكار التقسيم على أسس دينية أو مذهبية، على الرغم الضخ الإعلامي والسياسي، وقد برزت خطط وخرائط عديدة تتحدث عن ذلك. لكن لا تزال ثمة إمكانية لبروز اتجاهات كيانية في غير منطقة من سورية.
تشكيل جماعة وطنية
يمثل تشكيل جماعة وطنية، أحد أكثر التحديات حيوية وخطورة في فترة الحرب وما بعدها؛ جماعة أو هوية متعددة الأبعاد والتكوينات، مركبة، ليست “موزاييكاً” أو مجتمع “ملل ونحل” على النمط السلطاني الذي كان سائداً بقوة حتى بدايات القرن العشرين، ولا تزال مفاعليه نشطه حتى اليوم.
ان التحديث وبناء الهوية الجامعة لا يشترط القطع التام مع المكونات التقليدية لمعطى أو معنى الهوية، أو انطلاقه من مفردات ومفاهيم وأدوات عقلانية وتحديثية بالتمام. والواقع ان العقلانية هي جزء من الحداثة التي تشكل اللاعقلانية وجهاً آخر لها.
عندما نتحدث عن هويات فرعية دينية أو ثقافية أو قومية فهذا ليس من باب “تثبيت” و”إغلاق باب الاجتهاد” والمراجعات، و”رفع” الجدران والحواجز، وإنما من باب تعزيز بروز وعي تجاه العالم، بحيث لا يكون الدين أو الطائفة هو منظور المرء/المرأة للعالم، أو منظوره الرئيس، ولا يكون المختلف عن الأنا خصماً، ولا يكون مضطراً لمنافقة ومحاباة أحد، ولا التخندق في مواجهته.
ومن الضروري أن تؤكد نظم القيم والتعليم ومدارك الأنا على التنوع والتعدد في المجال والقبول به بوصفه شرطاً للاستمرار والاستقرار وبوصفه بداهة كونية وإنسانية، فإذا تعلم الطفل أن وجود أديان وعقائد ولغات وثقافات هو أمر طبيعي، ومن دون تمييز إنكاري وعدواني أو إزدرائي الخ فهذا يساعد في نشوء مدارك ونظم قيم للهوية تكون جمعية أو جامعة عل مستوى البلاد.
صحيح أننا أمام إشكالية معقدة، لكن الخيارات يجب أن تخلق هجنة وتنوعاً وتعدداً في إطار الوحدة، والهوية الوطنية؛ والسياسات الإدماجية ليست للصهر وإنما لـلمواطنة وخلق مجال سياسي وطني ما فوق جزئي أو جهوي أو فرعي، مجال عابر للهويات الجزئية والفرعية، مجال من طبيعة مختلفة، وبراديغمه مختلف، ليس مجموع المذاهب والأديان، ولا مجموع الثقافات واللغات، وإنما هو انتماء وولاء للمجال ولأمة ولمواطنة ولمقولة وعنوان وتاريخ
في العبور
ما يميز الهوية بهذا المعنى هو “الخروج وليس الدخول”، ذلك أن “الهوية نتيجة ونهاية وليست مبدأ وأصلاً. انها ليست شجرة أنساب، وسلسلة توالدات وإنما بناء وتركيب”، ذلك أن الهوية بوصفها “أصل” لم تعد أساساً للتفكير، ولم يعد الأمر يعني، كما يقول مارتن هايدغر: “السؤال: من أين صدرت الأشياء، إنما كيف تكونت؟”.
وهكذا، فإن الأصل في سؤال الهوية اليوم، ليس “أصل” الهويات والتكوينات، وإنما موقعها واتجاهها وفعاليتها وتفاعلاتها، وما تنشده، أي ليس “الماضي” وإنما المستقبل، ومن ثم فإن فواعل الهوية عندما تدخل في تفاعل متبادل فيما بينها، فهي لا تفقد هويتها، بقدر ما تبنيها وتؤسسها ببناء هوية موازية لها، لا تقطع معها ولا تتماهى بها بالتمام. وهذا هو أساس العبور إلى الهوية الوطنية.