كلمات الى أخي المسافر
الدكتور نبيل سرور | كاتب وباحث لبناني
بالأمس ودّعت أخي ..غادرَنا وهو في سنّ الخمسين واكثر ..
كان أخي صيدلانيا ذو خبرة، زادت على العشرين سنة ، وهو الآن معيلٌ، مغلوبٌ على أمره ، حزينٌ لما آلت اليه أوضاع البلاد والعِباد ..
ودّعتُ اخي بالأمس عند الغروب …دلفَ نحو باب العبور في المطار ، وغابَ عن عينيّ بعينٍ دامعةٍ وقلبٍ كسير !
فارقتُه بدمعِ العين ، وهو مَن حملَ آهاتي ، وبلسمَ جراحاتي عند المواجِع..ولم يتركني أخي في أيام الانكسار الصعبة..حيث كنّا نتبادلُ الهمومَ والحكايا ، الحزينةَ منها والسعيدة ..كنّا نلملمُ أشياءَنا عند تخومِ الوجع ، ثم ننسجُ حكايانا في بيتٍ تربّينا فيه، وشربنا ماءَ الصبر والكرامةِ حتى الإرتواء ..وعندما أصيب أخي العميد الركن منير بحادث سيرٍ رهيب ، عِشنا وحدة الوجع، ووحدة الألم، ووحدة الطريق على درب الجُلجلة …حيث كنا نتقاسمُ كلّ محطاتِ الوجع والحُزن المقيم في ليالينا الموحشة، التي مرّت ثقيلةً كبرد كانون في بيوت الفقراء، وكأنين المتُعبين من ظُلم الدهرِ وقسوةِ الأيام …
غادرنا أخي بالأمس …وأخي هو ابنُ هذه الأرض …أكلَ من قمحها وخيراتها، وشربَ من مائِها ، وسار في دروبها ، وروى أرضها بعرقِ الجبين ..
اليوم ، وقف أخي على مفارق الدروب الصَعبة ..واختار ان يغادرَ أرضَ الوطن، بعد أن قسى الوطنُ على بنيه..كان الشيبُ يجتاح رأسه كلّ يوم ..وهمومُ الحياة والتزاماتها، كانت تخطّ آثارها على الوجه الحبيب ..
وفقكَ اللهُ يا اخي ورعاكَ وحماك ..وحمى اللهُ كلّ ابناء الوطن ، الذين غادروه تحت وطأة ظروف الحياة وقسوتها ، في زمنٍ لبناني صعبٍ صعب وقدرٍ غاشمٍ لئيم ..
لبنان يا أحبتي، لم يعُد ذلك الوطن الذي يحتضنُ بنيه ..أصبح بيئةً طاردة ، يتخلى عمن تربّوا في مرابعه ، لا بل يشجعهم على الهجرة، وتركه الى رحاب الأرض الواسعة وآفاقها الممتدة …بعد ان تضاءلت أو انعدمت فيه فرصُ الحياة ، والبقاء بكرامة، الذي اصبح بمستوى الصفر او دون ذلك !..
لبنان يا أحبتي يحتضرُ تحت وطأة ظروفه الصعبة، الناسُ تعيش اسوأ أوضاعَها ،حيث التشاؤم يلفّ المشهد السياسي والاقتصادي في نفقٍ مظلم مسدود …ووحش الغلاء يَكوي الجيوب، ويدمّر أقوات الفقراء ، الذين تتسع اعدادهم وتزيد، وفرص العمل تتضاءل ، ومستقبل الأجيال يذوي ويضيع، بين جامعاتٍ خاصة ورسمية، هي الأخرى تأثرت بالجوّ العام للبلد ، ومؤسسات عامة وخاصة، بدأت تلفظ بنيها، باقالات او استقالات جماعية ..لا فرق !!
نحن نحبّك يا لبنان ، نعشقُ ماءَك وهواءك ودروبَك الحبيبة وقراك وجبالك والسهول…سنبقى نهواكَ يا وطني مهما تغّربنا، او غِبنا عنك ، او سرقتنا منك الأيام القاسية وظروفها اللئيمة الغاشمة ..
نعم …لبنان يا أحبتي، يعيش اقسى ظروفه ، وعلينا ان نبلسمَ جراحاته، التي هي جراحاتُنا …ونداوي آلامه التي هي آلامنا ، ونحل مشاكله وتعقيداته التي هي تعقيداتنا جميعا ً، ومشاكلنا الجاثمة كحملٍ ثقيلٍ ثقيل… !
صدقّوني …لا احد سيساعدُنا في كل هذا العالم، ان لم نساعد انفسنا ، وما من أمّةٍ او دولة تفكّر فينا وبمصالحنا وبمشاكلنا ، أكثر مما يجب أن نفكر نحن!! ..
فلنعمل على ان نستعيدك يا وطني الغالي من براثن الضياع ، قبل ان نبحثَ عنك في براري الوحشة والغربة ، فلا نجدكَ … وكم نخشى أن تكونَ بعدها اثرا بعد عين ..
وداعا يا اخي الغالي ودعائي لك بالتوفيق حيث انت… وسلاما الى كل من غادروا الوطن رغما عنهم ، بعد أن جفاهُم الوطنُ وقسى عليهم ، فآثروا الهِجرة والبِعاد على العيش الذليل والبقاء المُهان، بلا مستقبل واضحٍ او أفقٍ مفتوح …!
حَمى اللهُ لُبنان