كرد سوريا بين واشنطن وموسكو

الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري

خيّم الصمت على العاصمة السورية بعد وصول وفد مجلس سوريا الديمقراطية، الذي تقوده إلهام أحمد، إلى موسكو. دمشق  تترقّب تحول الخيارات السياسية لكُردها عبر حسم خياراتهم السياسية، وهم الذين ما زالوا يواصلون تدوير الزوايا للمحافظة على ما أنجزوه خلال السنوات العشر الماضية، ضمن تصور سياسي محدَّد لمستقبل سوريا، ينسجم مع طموحاتهم الأيديولوجية والقومية.

ألقى الانسحاب الأميركي من أفغانستان بظلاله على كل الدول والقوى السياسية، سواء من تعتبر نفسها حليفة للولايات المتحدة، أو مَن كانت من القوى التي تعتبر نفسها في مواجهتها، وتخوض صراعاً مديداً بمستويات متعددة، تبعاً لكل دولة أو قوة، وخصوصاً على المستوى الدولي لكل من روسيا والصين، أو الإقليمي لكل من إيران وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين والعراق.

ارتفعت نسبة الشكوك لدى كل الدول والقوى التي تراهن على بقاء واشنطن في موقع قيادة القاطرة العالمية، وخصوصاً أنها لم تتعاطَ معها بالطريقة التي تُشعرها بأنها حليف موثوق يجب احترام مصالحه، وينبغي لها التنسيق مع من تعتبرهم ضمن منظومتها. لكنّ واقع الحال أن أغلبية القرارات المفصلية اتخذتها واشنطن بمعزل عن التشاور والإبلاغ المسبقّين، بل كانت تدفع دولاً كبرى كفرنسا إلى التشدد في المواقف، كما في حال الملف النووي الإيراني، بينما كانت تخوض المفاوضات مع طهران في عُمان.

استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي أن يجعل نفسه رقماً صعباً في المعادلة السورية، وخصوصاً بعد أن استطاع تجاوز مرحلة التهديدات الوجودية، في إثر اجتياح تنظيم “داعش” منطقة عين العرب/كوباني، في شهر كانون الأول/ديسمبر 2014، على الرغم من خسارتيه الكبيرتين في عفرين عام 2018، والمنطقة الممتدة على مدى 120 كم من تل أبيض إلى رأس العين، وبعمق 30 كم. وفي كِلتا الحالتين كان لموسكو وواشنطن دور أساسي في إعطاء الضوء الأخضر لتركيا لتحتل هذه المناطق وتهجّر أهلها. ومع ذلك بقي يستمد قوته من قدراته التنظيمية الذاتية من جهة، ومن سيطرته على مقدرات أهم منطقة في سوريا، والتي تُعتبر سلة الغذاء السورية، بالإضافة إلى90 % من النفط والغاز السوريَّين. وفوق كل ذلك توجد قوى الاحتلال الأميركي بغير طلب الإذن من دمشق، التي تحوز الشرعية القانونية في تحديد شرعية الوجود في أراضي الدولة السورية، وهذه القوات وضعت يدها على مصادر الطاقة، وتحكّمت في عمليات توزيعها وبيعها كحصص.

أدركت قيادات الحزب بعد سقوط عفرين وتشرد أغلبية أهلها على يد الاحتلال التركي، أن الرياح الدولية بدأت تغيير اتجاهاتها، وأن العلاقة بالولايات المتحدة لم تحمِ الكُرد من التعرض لكارثة إنسانية كبيرة، فكان لا بد من البحث عن حلول للمحافظة على المكتسبات في إطار حل سياسي داخلي، وإيجاد الأرضية الملائمة لاستعادة عفرين ضمن إطار وطني سوري، فكانت قنوات الحوار مع دمشق من جهة، والعمل على مؤتمر الحوار السوري الأول في عين عيسى بتاريخ 19 تموز/يوليو 2018، بعد استبعادهم من المفاوضات بين المعارضة ودمشق في إثر لقاء آستانة الأول، وقبول موسكو اعتراض أنقرة على حضور من يمثلون حزب العمال الكردستاني وعدم اعتراض واشنطن على ذلك.

وتتالت الملتقيات السورية في “عين عيسى 2″، في 29 تشرين الثاني/ نوڤمبر 2018، والملتقى الثالث في عين العرب/كوباني في 28 آذار/مارس 2019. ولَم تستطع هذه الملتقيات الثلاثة دفع دمشق إلى تغيير موقفها المتشدد تجاه قبول أي تغيير سياسي يؤدي إلى الاعتراف بالإدارة الذاتية، انطلاقاً من هواجس الفيدرالية وما يمكن أن تترك من آثار سلبية في بنية المجتمع السوري المتعدد الهويات، قومياً ودينياً ومذهبياً.

ازداد قلق قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي بعد اجتياح تركيا الشريط الحدودي 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبرضا واشنطن الصريح، والتي أعطت الضوء الأخضر لتنفيذ العملية، ثم ما تلى ذلك من عدم اعتراف الأميركيين حتى الآن بالإدارة الذاتية، فاندفعوا إلى واشنطن وعواصم الغرب للبحث عن ضمانات الحماية لما تم إنجازه، الأمر الذي أدى إلى تقليل الاهتمام بفتح الحوار مع دمشق المتصلبة تجاههم، على الرغم من حاجتها الماسة إلى عودة مناطق الجزيرة السورية، التي تستطيع وحدها تخفيف أثر عقوبات “قيصر” الصارمة على سوريا.

على الرغم من مجيء الديمقراطيين إلى سُدة الإدارة الأميركية، بموقفهم المؤيد للكرد السوريين، فإن قرار انسحابهم من أفغانستان ترك شكوكاّ عميقة في عقولهم، وخصوصاً بعد أن بدأت استراتيجيتهم الجديدة لعموم الشرق الأوسط بالظهور، وهي تذهب إلى تبريد ملفات المنطقة للتفرغ لمواجهة الصين، وتستند إلى ركيزتين أساسيتين، هما ضرورة استقرار المنطقة، والذهاب بها نحو التنمية التشاركية، كما عبَّر عن ذلك مؤخراً جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي في مجلة “فورين بوليسي”، وهذا يقتضي الاعتراف بدور دمشق التي تحوز 65 % من مجمل الأراضي السورية، والاعتراف بدور موسكو في إيجاد مخارج للكارثة السورية التي أصبحت عبئاً على كل الإقليم، بما في ذلك “إسرائيل”، وكذلك الاعتراف بدور طهران في سوريا والعراق واليمن والخليج.

قرأت القيادات الكردية المشهد جيداً، فكان لا بد من التوجه إلى موسكو بعد تفعيل خطوط التواصل لإحياء الحوار مع دمشق عبر الأصدقاء القدامى لحزب العمال الكردستاني، وحمل مشروع الاعتراف بالإدارة الذاتية مقدمةً لنجاح الحوار السوري السوري، بعيداً عن الأميركيين الذين سبقوا زيارة موسكو برئاسة إيثان غولديريتش، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، والذي حاول إعطاء ضمانات من احتلال تركي جديد، في مقابل التوافق مع غريمه المجلس الوطني الكردي، الذي يمثل امتداداً لأربيل وأنقرة، وبينهما ما صنع الحداد.

أصبح من الواضح للجميع أن مصطلح اللامركزية يخيّم على رؤوس جميع السوريين كقاسم مشترك، لكنه مصطلح غائم بفعل فهم كل طرف من الأطراف له على نحو مغاير. فدمشق تفهمه ضمن إطار قانون الإدارة المحلية 107 لعام 2011، والذي لم ينفذ منه شيء حتى الآن، والقيادات الكردية تتعاطى معه أشبه بالفيدرالية، وموسكو تتعاطى معه أقرب إلى دمشق مع الاعتراف بتحقيق بعض القضايا القومية، ضمن الاعتراف بالتنوع، عرقياً ودينياً، بحسب تعبير وزارة الخارجية الروسية، وسائر الأطراف السورية تتعاطى معه بصورة غائمة، في انتظار ما تقوله واشنطن وأنقرة والرياض.

من المتوقع أن تبدأ الحوارات المباشِرة بين دمشق وكُردها بوساطة روسية في وقت قريب، وأن تصل هذه الحوارات إلى حلول وسط بتعريف اللامركزية، بحيث تتحقق مركزية القرار السوري، سياسياً وعسكرياً، وأن ينال الكرد الاعتراف بدورهم شريكاً أساسياً في مستقبل سوريا السياسي، من موقعهم كسوريين كرد.

 

Exit mobile version