ناصر قنديل | رئيس تحرير صحيفة البناء
– تشبه حكاية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الاستجابة لطلبات زيارة سورية، حكاية مَن أشار إليهم الإمام علي في خطبة الجهاد بقوله، “فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ (الصّيف) قُلْتُمْ: هـذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الْحَرُّ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هـذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ، أمْهِلْنا يَنْسَلِخْ عَنّا الْبَرْدُ”. فالرئيس ميقاتي قبل القمة العربية يقول امهلوني لبعد القمة، وبعد القمة يقول امهلوني للتشاور، وبعد التشاور سوف يقول لم العجلة، او تعالوا نرسل وفدا وزاريا، وهو يعلم ان العلاقة السياسية المقطوعة بين الحكومتين لا يمكن ترميمها على القطعة، ولا بالمفرق، ولا بالتهريب، ولا بالتذاكي، مرة بالقول إن الوزراء الذين يزورون سورية يتبعون لقوى سياسيّة ترغب بالعلاقة مع سورية، وبالتالي لا يمثلون الحكومة، أو على الأقل لا يمثلون رئيسها، وفي الماضي كان البعض يعتقد أن سورية ورئيسها بسبب تاريخ تعامل الرئيس ميقاتي بطريقة مؤذية بالقياس لتاريخ ما كان بينه وبين سورية، لا ترغب بإستقباله وأنه يوفر عليها وعلى لبنان إحراج الرفض فيكتفي بإرسال وفود وزارية، اما وقد صار ثابتاً أن سورية لم تقل هذا ولا تفكر بهذه الطريقة، وبعد تلقي الرئيس ميقاتي تشجيعاً سعودياً ومصرياً لترؤس وفد حكومي الى سورية، ليكون لبنان جزءاً من المسار الجاري تحضيره لملف النازحين، فالأمر لم يعُد يحتمل الصمت.
– كان يفترض بالاجتماع الذي عقد أمس أن يناقش ملف النازحين، ويقرّر تشكيل وفد حكومي يعرف الرئيس ميقاتي أنه ما لم يكن برئاسته فإن مهمته لن تتجاوز الحدود التقنية، وهو يتهرّب من اتخاذ القرار، وبعدما كان الموقف العربي يوفر تغطية لقرار ميقاتي بالإحجام، تحت شعار أن لبنان لا يريد أن يكون خارج الموقف العربي، جاءت التطورات العربية تحرم ميقاتي من هذا الغطاء. فالرئيس السوري دخل اجتماع القمة العربية وتحدّث من منبرها وكان الحدث الأبرز بحضوره وكلامه، ومن يقرأ النصوص التي أقرتها القمة حول سورية يعرف أنها نصوص سورية، وليست كما حاول بعض العرب واللبنانيين من جماعة أبو الغيط الذين يعيشون على تمنياتهم ويفسّرون بها أحلام اليقظة، الترويج لمقولة إن هناك اشتراطات على عودة سورية، والمنطقي والطبيعي طالما أن الملف الأول المتحرك من ملفات سورية هو ملف اللاجئين وإعادة الإعمار، وطالما أن لبنان من الدول الأولى المعنية بهذين الملفين، الأول لاتقاء سلبياته وأضراره، والثاني للاستفادة من فرصه وخيراته، أن يكون لبنان مسارعاً لتهيئة العلاقات اللبنانية السورية لتكون بحجم ومستوى ما يستدعيه دور الحكومات في مصالح دولها وبلدانها.
– المنطقة والعالم في قلب متغيّرات متسارعة، ولبنان الواقع في قعر الانهيار تأتيه الفرص من حيث لم يجهد ويتعب سياسيّوه في صناعتها، وتأتي التحولات في العلاقات العربية، خصوصاً ما يتصل بالانفتاح السعودي على إيران وسورية بعكس ما كانت عليه السياسات التي اعتادها الكثير من اللبنانيين الذين اتخذوا السعودية ومواقفها متراسا للعداء لسورية وإيران، ولبنان لا يحتمل انتظار الوقت الذي يحتاجه هؤلاء السياسيون للتأقلم مع هذه المتغيرات وتبريرهم لاستبدال خطابهم السابق بخطاب جديد، ولا يحتمل ما يحاوله البعض من إعادة تموضع وراء الخطاب الأميركي المعادي لهذا الانفتاح، والكشف عن حقيقة أنهم كانوا يكذبون عندما قالوا إنهم يتهربون من العلاقة مع سورية مراعاة لما يسمّون بعلاقات لبنان العربية وخصوصاً بدول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، أو أنهم يعارضون المقاومة لأنها تعرّض هذه العلاقات للخطر، وهم يتجرأون اليوم على التملص من موجبات هذه العلاقات العربية، ويتحدثون باللغة القديمة عن سورية والمقاومة، لكن تحت عنوان جديد، لبنان لا يستطيع المخاطرة باستغضاب أميركا، وربما بعد غد يقولون إن المطلوب موافقة “إسرائيل” المسبقة قبل زيارة سورية!
– من غير المقبول التعامل مع هذا الاستهتار بالمصالح الوطنية العليا بصفته وجهة نظر، وواجب كل القوى الفاعلة قول الأمور بوضوح. إن التردد في التوجّه نحو سورية يعادل جرم الخيانة، في ضوء ما تمثله قضية اللاجئين السوريين وفرص إعادة الإعمار في سورية، ومن لديه مصالح شخصية يخشى عليها وتعطلها ممارسة الشأن العام فليبق جانباً ولا يقتحم ممارسة الشأن العام. ولعل العبرة التي يجب أن يتعلمها اللبنانيون الذين صفقوا كثيرا لدخول رجال الأعمال معترك السياسة، هي أن أخطر ما ترتكبه الشعوب بحق مصالحها وقضاياها هي التهاون مع اقتحام رجال الأعمال لممارسة السياسة، فكلما كبرت وتشعبت مصالحهم وثرواتهم صاروا رهائن لها وصار الضغط عليهم على حساب مصالح بلدانهم ودولهم أكبر.