كتب ناصر قنديل | زيارة رئيسي: سورية وإيران في ظل الاتفاق الإيراني السعودي
ناصر قنديل | رئيس تحرير صحيفة البناء
– بالرغم من أن عمر العلاقة الاستراتيجية بين سورية وايران يقترب من نصف قرن، في ظل استقرار النظام السياسي في البلدين، والثوابت الاستراتيجية لكل منهما تجاه الصراعات الدولية والإقليمية، خصوصاً في مرحلة ما بعد ما بعد سقوط جدار برلين وانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتسيّد أميركا على العالم بقطبية أحادية شديدة القسوة، وبصورة أخصّ بعد تحرير المقاومة لجنوب لبنان عام 2000. وكان جوهر الجامع المشترك الدائم الذي شكل قاعدة هذه العلاقة لا ينبع من مصالح سلطوية أو اقتصادية صرفة، بل من الثوابت الاستراتيجية المتمثلة بخيار المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية والكيان الغاصب لفلسطين وتبني خيار المقاومة. والدليل أنه وقفت خلالها سورية بكل ثقلها الى جانب إيران، كانت خلال ثماني سنوات الحرب العراقية المدعومة أميركياً والممولة خليجياً على إيران، وكانت سورية تعمل ضد مصالحها الاقتصادية والسلطوية، وتحمّلت مخاطر شن حملات استهدفتها هدّدت استقرارها وأمنها سواء عبر من كان يشغلهم ويموّلهم النظام العراقي السابق أو عبر ما قام به بتمويل خليجي تنظيم الإخوان المسلمين طيلة فترة الثمانينيات، أو من خلال حروب الاستنزاف التي شنّها كيان الاحتلال، سواء من خلال حرب زحلة وأزمة الصواريخ عامي 1980 و1981 وصولاً للاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي كان من ضمن أهدافه إخراج سورية من لبنان وتهديد دمشق عبر حدودها، وبالمقابل فإن وقفة إيران مع سورية خلال أحد عشر عاماً كانت عكس المصالح الاقتصادية والسلطوية للنظام الحاكم، وكانت أكلافها تكاد لا تحتمل، ومعلوم أن الاتفاق النووي الذي عرض على إيران بنسخته الأولى في بغداد عام 2012، كان ملبياً لمصالحها، لكنه كان مشروطاً باستعداد طهران للتفاوض حول سورية مع واشنطن بما يضمن انسحابها من موقفها الداعم لسورية، وعندما رفضت طار الاتفاق. وفي المرة التي وقع فيها الاتفاق عام 2015 ولم ينتج عنه تبدل في موقف إيران الداعم لسورية كانت النتيجة المتوقعة الانسحاب الأميركي من الاتفاق والعودة الى العقوبات الأميركية على إيران.
– مفهوم المصالح وعلاقته بنصاعة العلاقات بين الدول حاضر في العلاقة السورية الإيرانية، لكنه حاضر لدى الدولتين بصفته استشرافاً للمصالح الاستراتيجية البعيدة المدى، التي تتقاطع عندها مصلحة النظام الحاكم مع مصلحة الكيان السياسي الوطني وتتقاطعان مع الأهداف السامية للشعوب العربية والإسلامية، وجوهرها الوطني لكل منهما هو الاستقلال، وجوهرها القومي والإقليمي هو المقاومة. وهذا النموذج الجديد للعلاقات الدولية، كان الأساس الذي تقدم معه كمثال تبعته العلاقات السورية الروسية باعتماده أساساً للتحالف. وقد أظهرت الأحداث المتلاحقة صحة وصواب هذا الخيار وهذا المفهوم، على مستوى الثلاثي السوري الإيراني الروسي، حيث نجحت المواجهة المشتركة تحت عنوان المعركة مع الإرهاب، بحماية الأمن القومي لروسيا وإيران عن بُعد عبر المشاركة الكاملة في الحرب ضد الإرهاب التي خاضتها سورية، كما نجح هذا المثال بإثبات وجود فرص حقيقية للفوز بسباق المواجهة مع مشروع الهيمنة الأميركية، الذي فرضت عليه تراجعات كبرى بفعل الثبات السوري والايراني خلال الحربين الأميركيتين على أفغانستان والعراق والحروب الإسرائيلية على لبنان وغزة، والثبات السوري الإيراني الروسي خلال الحرب على سورية بكل مراحلها ووجوهها، ومن رحم هذا الثبات بدأت ملامح ولادة العالم الجديد، كما بدأت ملامح الشرق الجديد تولد من رحم الثبات السوري الإيراني في حماية خيار المقاومة ورعايته وقيادة محوره في مواجهة كيان الاحتلال، الذي بدأت علامات الشيخوخة تظهر عليه، ومعها المزيد من الوهن والمزيد من الانقسامات، وفي قلب هذه التغييرات الدوليّة والإقليمية نهضت قوى المقاومة في العراق وفي اليمن، وتغير بفضل ثباتها وجه المنطقة. وجاء الاتفاق السعودي الإيراني من بكين، تعبيراً عن كل هذه التحولات، باعتباره التجسيد الأهم لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي للمنطقة كما وصفه المسؤولون الصينيون، وبصفته تعبيراً عن توجه سعودي للتلاقي مع إيران من خارج علبة الخيارات الأميركية، وبعيداً عن حسابات الرضا والغضب الأميركيين، ومثله الانفتاح المتسارع للسعودية على سورية.
– تأتي زيارة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي الى سورية هذه المرة، بعد سنوات من معادلة حكمت العلاقة السورية بكل من إيران والسعودية، كان عنوانها كل تحسّن سوري في ضفة يعني تأزماً في الضفة المقابلة، بحيث تعذر للوساطة الروسية عام 2017 النجاح بترميم العلاقة السعودية مع سورية دون أن تقبل سورية بشرط إضعاف علاقتها بإيران، وهو ما لم تقبل به سورية طبعاً، ولا طلبته روسيا بالتأكيد، لكن هذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها العلاقة السورية بكل من إيران والسعودية موضوعاً للتساكن لا للعداء، رغم التنافس، بل ربما تمثل سورية الجسر العربي الذي تحتاجه السعودية للتحدّث مع حلفاء إيران من العرب وهم حلفاء سورية في الوقت نفسه، سواء في لبنان أو العراق او اليمن او فلسطين، ولهذا تبدو العلاقة السورية بكل من السعودية وإيران قابلة للتكامل مع بعد آخر قيد التشكل هو علاقتها بتركيا، ما يذكرنا بما سبق للرئيس السوري بشار الأسد أن نادى به من نظام إقليمي قائم على التشبيك الاقتصادي والأمني، تحت عنوان دول البحار الخمسة، ويبدو الشرق الجديد ترجمة لهذه الوصفة السورية، التي كلف رفضها من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة شعوب المنطقة كلها أثماناً باهظة، وربما يوفر السير بها مزيداً من الأكلاف، وهنا يبدو مفهوم علاقات المصالح بين الدول القائم على الرؤى الاستراتيجية أكثر ثباتاً وأشد قوة من مفهوم المصالح التقليدي القائم على المصالح المباشرة والفورية سواء للاقتصاد او للمصالح السطلوية، والأهم أنه أكثر أخلاقية وأعلى مرتبة على الصعيدين الوطني والقومي، ومرتبطاً برفعة الشعوب وكرامتها.