ناصر قنديل | رئيس تحرير صحيفة البناء
يندر أن يكون في تاريخ لبنان حزب سياسيّ نجح بتوظيف صعود قوته وتنامي مقدراته، وتعاظم تحالفاته الداخلية والخارجية، لصناعة أكثر من انتصار. فالانتصار الواحد لقضيّة يمكن ترسيمها على المستوى الوطني، يكون كافياً لتشكيل رصيد يعتاش عليه هذا الحزب لعقود طويلة. فهذا هو حزب الكتائب بمساهمة ملتبسة في معارك الاستقلال عام 1943، رغم توصيفه من آخرين بحزب الانتداب، بقي يقدم نفسه حزب الاستقلال، ويحجز لنفسه موقعاً وازناً في معادلات الحياة الوطنية، ومن بعده وعبره حزب القوات اللبنانية على إنجازات قدّمها تحت عنوان حماية المسيحيين، وتداخلت مع تورّط مشبوه في العلاقة بالاحتلال الإسرائيلي، حجز حضوراً كقوة وازنة في الحياة اللبنانية، رغم كل ما يحسبه إنجازاً مسيحياً أو ما يعتبر سقوطاً على المستوى الوطني بالعلاقة مع الاحتلال، من تداخل مع ارتكابات دموية يصل بعضها الى حدّ الجرائم بحق الإنسانية كمجازر صبرا وشاتيلا.
شكل الدور المحوري لحركة أمل في مقاومة الاحتلال والانتفاضات والمواجهات التي انتهت بإسقاط اتفاق 17 أيار، وفي طليعتها انتفاضة 6 شباط 1984، الركيزة التي أسست صعود الحركة وتقدّمها على المستوى الوطني كقوة لا يمكن تجاهل حضورها ودورها، وعلى تماس مع هذا الدور كان دور الحزب التقدمي الاشتراكي في حرب الجبل، كإنجاز طائفي بوجه مشروع الهيمنة القواتية، وجزء من إنجاز وطني بالمساهمة في انتصارات عسكرية وسياسية مهدت لإسقاط 17 أيار، فصار رقماً صعباً في المعادلات اللبنانية، وبقوة التقاطع مع ظروف إقليمية ودولية ومحلية عديدة نجح تحالف قوى 14 آذار والتيار الوطني الحر بتقديم الانسحاب السوري من لبنان كإنجاز سيادي، بنيت عليه مكانة سياسية وأدوار داخلية وخارجية لأصحابه، رغم كل ما فيها من شبهات تخديم مشاريع أجنبية بائنة.
وحده حزب الله يفعلها بلا التباسات ولا شبهات، حيث لا تورط في حروب أهلية، وحيث لا صرف فائض قوة لتحسين الوزن الطائفي في معادلة النظام السياسي، بل فقط انتصارات تضاف الى رصيد الوطن، وحيث التحالفات المساندة، رغم كل الكلام الذي يستهدفها، لم يسجل عليها أي استفادة أو توظيف لانتصارات ومكانة الحزب في حساب مصالحها، فبقي الانجاز وطنياً نقياً لبنانياً صافياً. وهو الحزب الذي بقي يقاتل عشر سنوات وحده تقريباً، بعد اتفاق الطائف، بعدما تشارك قبلها بدور مميز في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وصولا لفرض استحقاق وإنجاز التحرير عام 2000، لكنه لم يتوقف، بل بقي مواظباً مثابراً حتى كرّسه وأضاف إليه إنجاز الردع والدفاع والحماية في حرب تموز عام 2006، فتحصّن لبنان بقوة انتصار جديد صنعه حزب الله وحده، وجاء الانتصار اللاحق في التحرير الثاني عندما هزم الحزب جماعات التكفير والإرهاب في جرود البقاع، بالتعاون والتشارك مع ما فعله الجيش اللبناني عندما انضمّ الى المعركة بعد طول تعطيل وانتظار، مقدماً التضحيات وصانعاً للانتصارات.
يحتفل حزب الله بالتحريرين الأول والثاني، لكنه في قلب معركة التحرير الثالث، وبعدما تبلورت معادلة البرّ، انتقل الى معادلات البحر، ومثلما رسم معادلة حيفا وما بعد حيفا وما بعد ما بعد حيفا ليحمي البر، رسم معادلة كاريش وما بعد كاريش وما بعد ما بعد كاريش ليحمي ثروات البحر، والمعركة اليوم أشد حيوية وأهمية، لخصوصية ارتباطها بثروات تحولت الى مصدر الأمل الوحيد لخروج لبنان من قعر العوز والفقر والإفلاس، بعدما نهبت المصارف ثرواته المتراكمة ووضعتها بفوائد مرتفعة ديوناً لدى الدولة، وبعدما بدّد الفساد والفوضى ثروات الدولة. وبجدارة يمضي حزب الله في معركة التحرير الثالث، وكما في التحريرين الأول والثاني، يتحمّل سهام الداخل وتهديد الخارج، لكنه يمضي بثقة الاستعداد للمخاطرة وتقديم التضحيات، وبيقين القدرة على صناعة النصر، وكما في التحريرين الأول والثاني لا يطلب شيئاً لنفسه ولا لطائفته، ويهدي نصره للبنان واللبنانيين.
الذين يسألون عن سر انتصارات حزب الله عليهم أن يبحثوا عميقاً في هذا المعنى الوطني الصافي لانتصاراته.