ناصر قنديل | رئيس تحرير صحيفة البناء
نحن في لبنان نعرف بعضنا جيداً، ولا نتفاجأ بالمواقف، بل نستطيع توقعها. ففي لبنان كثيرون يعتبرون أن التضامن مع القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومع الشعب الفلسطيني هو تضامن أدبي وإعلامي وسياسي، ولو بقي دون جدوى. وهم يقولون إن لبنان عانى كثيراً من تحوله الى ساحة مواجهة أو صندوق بريد لنقل الرسائل المتبادلة في ما يسمّونه حروب الآخرين على أرضنا، وآن الأوان ليكون كل شيء تحت سقف الدولة، التي لا تستطيع إلا إصدار البيانات المتلعثمة حرصاً على الوفاق الوطني. وفي لبنان كثيرون يذهبون أبعد من ذلك ويعتبرون أن القدس وأقصاها وقيامتها مسؤولية الفلسطينيين في أحسن الأحوال، بل ربما يراها البعض شؤوناً سيادية “إسرائيلية”، تقع تحت مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول. فهذا هو لبنان الذي نعرفه ولا نتفاجأ فيه من السماع.
كل هذا شيء، والواقع شيء آخر. فما يُقال هنا هو مجموعة من الرغبات والتمنيات، وما يجري في الواقع منذ نشأة كيان الاحتلال مغاير، لأن موازين القوى هي التي تحكم ما يجري وليست الرغبات والتمنيات، وموازين القوى كانت وما زالت تحكم على الضفتين، وكيان الاحتلال كان كلما وجد ذلك ممكناً يحاول إعادة صياغة لبنان من الداخل وفقاً لرغباته وتمنياته وطموحاته. وبالمقابل منذ عام 1948 كان لبنانيون يمثلون كتلة وازنة قادرة على التحرك وفرض أجندتها، كلما وجدوا فرصة واعتقدوا أن الموازين لصالحهم لا ينفكون يعبرون عن القناعة بأن قضية فلسطين قضيتهم، وأن القدس وأقصاها وقيامتها مسؤوليتهم. حدث هذا عندما تشكّل جيش الإنقاذ وتولّى قيادة فرقته عبر الحدود الأمير مجيد أرسلان عام 1948، وتشكلت فرقة الفدائيين بقيادة المناضل معروف سعد، وتكرّر عندما ولدت المقاومة الفلسطينية وانتقل جسمها العسكري إلى لبنان، وتولّت أبرز شخصية وطنية لبنانية هي كمال جنبلاط قيادة جبهة الدعم اللبنانيّة للمقاومة الفلسطينية.
ما يحدث في زمن تولّي حزب الله قيادة هذه الشريحة اللبنانية الوازنة ليس جديداً، بل هو امتداد لتاريخ لبناني يصعب نكرانه أو إلغاؤه. والسؤال الدائم الذي تولى طرحه الرئيس سليم الحص، هو هل القضية هي فلسطين أم السلاح الفلسطيني؟ وبلغة اليوم السؤال هو هل القضية هي في الصواريخ أم في القدس؟ وكان الرئيس الحص يجيب أن القضية فلسطين أما السلاح فهو مشكلة متفرعة من القضية تجب معالجتها تحت سقف حماية القضية لا قتلها. واليوم القضية هي القدس والأقصى وليست الصواريخ. والرسالة التي يجب أن يفهمها الإسرائيلي المصاب بذعر الضعف والانقسام، على ألسنة كل اللبنانيين والعرب وأحرار العالم، في زمن المقاومة وموازين الدرع التي فرضتها وقامت بتعزيزها حتى بلغت أعلى مدى، ليست أننا نخشى ما سيفعل رداً على الصواريخ، بل هو عليه أن يخشى من كون الصواريخ رداً عفوياً لا يمثل ما ينتظره إن تمادى في العدوان على القدس، سواء تولّى الردّ الفلسطينيون أو اللبنانيون، فلا أمن ولا استقرار للبنان ما دام هذا الوحش الداشر على حدوده، ولا ضمان للبنان إلا بتعزيز التضامن وراء معادلات الردع التي تحميه من العدوان.
هل يستطيع أحد أن يتخيّل المشهد إذا نجح وحوش قطعان الاستيطان العنصري بذبح قرابينهم في المسجد الأقصى، أو إذا تمكّنوا من هدم بعض جدرانه وقاعاته وقببه، وهل ما سيواجه به اللبنانيون والعرب والمسلمون والمسيحيون هو الدعاء، أو انتظار “المؤسسات السيادية الإسرائيلية” للجم التوحش، تحت شعار عدم التدخل في الشؤون السيادية، أو انتظار بكائيات الجامعة العربية، وبيانات انتقالها من حال القلق إلى القلق الشديد، بالتزامن مع انتقال الأمين العام للأمم المتحدة من القلق الى الذهول، أو انتظار ما يفعله مجلس الأمن الدولي الذي عطّل الأميركيون مجرد نية إصدار بيان عنه يدين العدوان الإسرائيلي؟
ما أظهرته المقاومة وقيادتها من حكمة وشجاعة، وما بين يديها من اقتدار، عناصر كافية للقول إننا واثقون من سلامة الموقع الذي نقف فيه مما يجري في فلسطين، والقدس خصوصاً، وإننا لسنا قلقين من التداعيات، وإن من يجب أن يقلق هو الإسرائيلي.