تحليلات و ابحاثمقالات مختارة

كتب نارام سرجون | سيمفونية روسية عسكرية غامضة على نهر دنييبر .. كسارة البندق وفئران الناتو

نارام سرجون | كاتب سوري

لست روسيا ولكن روسيا صديقتي وحليفتي .. ولي مصلحة في أن تنتصر وتسود .. لأنني عندما أنظر الى روسيا لاارى فيها بوريس يلتسين ولا غورباتشوف ولا قيادات البيريسترويكا الهزيلة .. بل أرى فيها الاتحاد السوفييتي .. وثورة الفلاحين والعمال والفقراء الشيوعية .. وارى فيها أول رحلة بشرية الى الفضاء عبر يوري غاغارين .. وأرى فيها الكنيسة الارثوذوكسية التي لم تقترب منا في الحروب الصليبية ولم تغوها دعوات البابوات لحماية قبر السيد المسيح واحتلال الشرق .. وأرى روسيا التي وقفت معنا في حروبنا مع اسرائيل وحاربنا بسلاحها وصواريخها ودباباتها .. وأرى روسيا التي وقفت معنا في وجه العالم ضد الحرب الكونية على بلادنا .. وأرى في روسيا أعظم الأدب الانساني .. ولاشك ان الثقافة التي تنتج ادب تولستوي وعقل ديستويفسكي وموسيقا بحيرة البجع ، او كسارة البندق لتشايكوفسكي هي ثقافة جبارة جديرة بالاحترام وجديرة بالانتصار .. ولأن الشعب الذي يقدم ثلث ابنائه – وعددهم 27 مليونا – ثمنا لحريته وكرامته في 3 سنوات ضد المانيا شعب عنيد جدا وكرامته تساوي الحياة كلها .. ولذلك فانه حطم أسطورة أعظم جيشين أوروبيين وأسطورة أهم القادة الاوروبيين مثل بونابرت وهتلر ..

واليوم تقف روسيا التي وقفت معنا في حربنا ضد الكون وتراني أراقب الغرب وهو يريد ان ينقلب الكون على روسيا .. وصرت أتابع أخبار الحرب على روسيا التي تشن عليها في اوكرانيا وكأنها حربي أنا .. والحقيقة هي ان روسيا لم تعتد على اوكرانيا بل ان الغرب شن حربا عليها من اوكرانيا .. وكانت اوكرانيا لروسيا هي مثل تركيا او اسرائيل لسورية .. وهي اليوم كما حررت العالم من قبضة الرأسمالية لعقود سبعة عبر ثورتها الشيوعية فانها اليوم تبدأ مشروع تحرير العالم من الثقافة الامبريالية المتوحشة لمن يظنون انهم سادة العالم .. ويريدون ان يشرب العالم كله الكوكاكولا بدل شراب الورد او النعناع ويأكل الماكدونالد كما لو انها طعام الخلود .. ويحب مادونا كما لو انها مريم المجدلية ويقدس بروس والاس كأنه جلجاميش .. ويربي ابناءه على الافكار الشاذة المنحرفة على انها طبيعية .. ويفهم الحرية والديمقراطية على انها أهم من السلام وأهم من الوطن وأهم من الارض والبشر .. ويفهم الاقتصاد الوطني كما يريد البنك الفيدرالي الامريكي .. ويقترض من البنك الدولي كزبون مدمن على القمار .. يخسر ثم يستدين ليخسر ليستدين .. ثم ليخسر ليستدين .. الى ان يبيع شرفه الوطني واستقلاله وشرفه الشخصي ثم أعضاءه وأحشاءه وكليته وكبده .. ويكتب صك عبوديته بطريقة كامب ديفيد او أوسلو او الاتفاقات الابراهيمية ..
من أجل كل هذا تهمني الحرب في اوكرانيا لأنها من حيث شئت او لم أشأ حربي انا وحرب كل حر وثائر وتواق للحرية وللانعتاق من هذا النظام العالمي الفاجر الماكر اللعين الذي تذوقناه في حروب الارهاب وحروب العراق والخليج والحرب على الاسلام وفي سرقة فلسطين وفي ثمرته الفاسدة الشريرة التي سماها زورا وبهتانا الربيع العربي ..

هناك حرب اعلامية على روسيا وتشويه لها ولقوتها واعصارها العسكري .. وتذكرني هذه الحملة الشعواء عليها بما كان يحدث في سورية ولكن بنسخة جديدة .. فمن يتابع الاخبار الغربية يصاب بالهلع ان كان محبا لروسيا .. ويظن ان الجيش الروسي قد أبيد عن بكرة ابيه وان الحرب أكلت كل السلاح الروسي .. وان بوتين مصاب بانهيار عصبي من الهزائم .. رغم ان الحقيقة تقول ان روسيا تنتصر بهدوء وهي تدير هذه الحرب بأعصاب هادئة وكل الأحداث تشير الى ان الروس لم يدخلوا الحرب وهم واهمون .. وانهم استعدوا لأسوأ الاحتمالات .. وانهم لم يتوقعوا ان تكون المواجهة قصيرة .. بدليل انهم دخلوا بالتدريج في الحرب .. بعملية محدودة ثم انتقلت الى المرحلة الثانية .. وهي تتهيأ للمرحلة الثالثة .. لأن الرهان الغربي على أوكرانيا كوكر للمؤامرة يعني ان الغرب كله خرج للحرب لأن أوكرانيا هي الخنجر الذي سيثقب روسيا ويذبحها في الوريد ولايجب كسر الخنجر .. ولذلك فان التلويح البوتيني بالخيار النووي الروسي كان مستغربا وهو يخوض حربا اقليمية على حدوده .. رغم انه كان يعني ان الروس يتوقعون حربا ومواجهة عالمية لن تكون قصيرة .. ولذلك فانهم لوحوا بالسلاح النووي وكأنه رسالة تقول نحن نعلم ان الحرب لن تكون قصيرة ونحن مستعدون لحرب طويلة ولكن اي محاولة للعب خارج هذا التفاهم يعني اننا سنجعلها قصيرة بالخيار النووي ..

هذه حرب كبيرة بين روسيا العظمى وكل الغرب وسيكون واهما كل من يتصور ان الحرب في هذه الحالة لن تكون فيها تغيرات في التخطيط والانتشار بناء على معطيات كل يوم .. ولكن الواهمين بأن روسيا تتحطم يريدون ان يصدقوا هذه الامنية ولذلك فانهم يبالغون في قراءتهم .. والمبالغة تفضي دوما الى الى الاستنتاجات الخاطئة ..

في كل مراجعة روسية لسير العمليات العسكرية يراها خصوم روسيا وكارهوها على أنها نكسة وانكسار وخسارة .. فعندما وجد الروس ان معركة خاركيف لامبرر لها طالما انهم لايريدون السير نحو كييف وان الخصم يريد ان يصنع في خاركيف مناورة عسكرية .. ترك الروس خاركيف على مضض لأن المتحمسين العسكريين الروس عموما لايحبون التراجع حتى عندما يكون طريقا للنصر الدامي المكلف بلا مبرر ..

وعندما قرر الروس احترام الخريطة في خيرسون عرفوا ان الاوكرانيين أضعف كثيرا في خيرسون منهم خارجها .. وأن خيرسون يمكن ان تتحول الى كمين جغرافي للروس اذا لم يحولوها الى ترس جغرافي .. فمن ينظر الى الخريطة وحيث وصل الروس الى مابعد النهر يعرف انه تقدم لايفيد كثيرا اذا لم تكن الوجهة هي كييف البعيدة في الشمال مئات الاميال التي لايكون الوصول اليها من الجنوب بل من الشمال .. وسيعرف الناظر الى الخارطة ان التثبت في ذلك الشريط والمثلث ما بعد النهر لايفيد الا اذا كان العمق فيه كبيرا بحيث ان العدو لايقدر على التحكم بالامدادات التي تصل عبر النهر .. وكل من يتقدم بعد النهر ويحارب سيكون النهر في ظهره جغرافيا .. وكل من يتحكم بالامدادات عبر النهر سيجعل القوات مابعد النهر محرومة من الامداد والتواصل اللوجستي مع بقية القوات .. اي سيصبح الجيش الروسي مثل الجيش المصري بعد العبور في السويس عندما تحكم الاسرائيليون بظهره وهو قناة السويس عبر خرق الدفرسوار .. بضع دبابات تدفقت وراءها مئات الدبابات وصار الجيش المصري بين الدبابات من أمامه في سيناء والدبابات من ورائه خلف القناة .. ولم يعد قادرا على التقدم او التراجع .. وصار كل مايطلبه ان يسمح الاسرائيليون له بامدادات الماء والغذاء فقط .. وهذا هو درس الموانع المائية عندما تكون خلفك .. والمساحة امامك محدودة للمناورة كما هي جبهة خيرسون .. علاوة على ان الروس كانوا مدركين ان الاميريكيين يحرضون الاوكران على تدمير السد الذي سيغرق المنطقة والمدينة وسيغرق فيها القوات الروسية .. والاميريكيون لايهمهم ان يتم تدمير كل اوكرانيا واغراقها اذا كانت النتيجة هي تدمير القوات الروسية .. فهم لايدفعون من جيبهم ولا من دمهم .. وهم في هذا النوع من التضحيات التي يقدمها الاخرون أسخياء جدا .. فهم كانوا يدفعون بألف داعشي واخواني لاحتلال قرية سورية فيها عشرة جنود ولايهمهم ان تبيد الطائرات 900 داعشي طالما ان 100 منهم سيكسبون ويرفعون الراية كي تنقلها وسائل اعلام وكاميرات تديرها ماكينة اعلام المخابرات الامريكية للترويج لداعش لتجنيد المزيد ولتحطيم معنويات الجيش السوري والشعب السوري ..

ولذلك فان الروس كانوا واعين الى ان القادة الاوكران مثل قادة الدواعش لايهمهم ماذا يخسرون طالما انهم ينتصرون اعلاميا ويتنافخون امام الكاميرات .. وسينفذون أي امر انتحاري يقرره الامريكان .. وسيعتبرون اغراق منطقة خيرسون عبقرية عسكرية تستحق التضحية بمدن مأهولة بالسكان .. وبالطبع سيقولون ان الروس هم من دمروا السد كما كان المعارضون المجرمون يقولون في سورية عن كل عملية خسيسة يقومون بها .. يقتلون المدنيين بالقصف ويذبحون الضحايا ثم يصورونهم على انهم ضحايا الجيش السوري ..

عندما نبالغ في الاحتفاء بنصر فاننا نفعل ذلك لاخفاء طعم ما كريه في هذا النصر فاننا نزيد من احتمالات التسمم .. وعندما نعتقد ان رائحة الحرائق تخفيها العطور الفواحة فاننا واهمون .. ولذلك فاننا لن نرش العطر لمواجهة دخان الحرائق .. ومن هنا فان هذا الاحتفاء الغربي بالانسحاب الروسي كمن يزيد في حلاوة الشراب ليخفي فيه طعم العفن وأبخرة الجراثيم ومذاق الدم .. وهذا مايحدث في خيرسون التي تبخر منها الروس في الليل فجأة .. ودون قتال ودون معركة .. وهذا الغياب للمعركة يدل على ان الانسحاب اشد سببا للحيرة من الهجوم .. ويثير سؤالا من مثل هل ترك الروس في خيرسون وتر أخيل للأوكرانيين .. والانسحاب الذي لاتفسير له هو أصعب الاسئلة التي يخشى العسكريون مواجهتها .. فكيف ينسحب جيش مدجج بالسلاح والخطط دون قتال ؟ ولماذا؟ هل هو فخ وكمين؟ ام تحوط وحذر .. أم هو منطقة مسمومة؟؟ .. لن يعرف الاوكران الجواب .. ولذلك لايزالون يتقدمون بحذر شديد وهم يحوم فوقهم سؤال لاجواب له وهو: ماذا يقصد الداهية بوتين بذلك؟

انا مطمئن جدا ويزداد اطمئناني عندما يصبح صوت الطبول قويا يحاول ان يطمس السيمفونيات .. ويحاول البعض ان يقنعنا ان أصوات الطبول خلقت لتراقص الألحان السيمفونية .. وأنها ترقص برشاقة فوق خطوط السلم الموسيقي .. ولست قلقا على روسيا التي كتبت لنا الحرب والسلام أدبا وحربا .. وتعيد تعريف الضمير البشري والروح في الجريمة والعقاب .. وتعزف اليوم لنا سيمفونية نهر دنييبر امتدادا لبحيرة البجع .. وسننتظر روسيا الارثوذوكسية الناهضة التي تدافع عما بقي من السيد المسيح بعد ان خذلته كل كنائس اوروبة وتنكرت له وغيرت قيمه وجعلت المسيحية صهيونية .. وانتصرت لتجار الهيكل وكسرت الصليب ..

في خيرسون .. الروس لايخسرون .. ولكن كل خصومهم عما قريب سيخرسون .. وكسارة البندق الروسية تخوض حربا مع فئران الناتو كما تحكي لنا قصة سيمفونية وباليه كسارة البندق الروسية التي تحكي عن معركة بين ملك الجرذان وجيش الجرذان من جهة وبين كسارة البندق .. تقدم لنا رقصات بطعم الشيكولاتة وتمثلها الرقصة الإسبانية .. ورقصات بنكهة البن وتمثلها الرقصة الشرقية، ورقصات بمذاق الشاي وتمثلها الرقصة الصينية .. ان روسيا في حربها تحارب عن الجميع وعن ثقافات الجميع وحضارات الجميع .. ضد جرذان العالم وثقافة القوارض الثقافية والعسكرية الناتوية التي تفتك بكل ماتصادفه من ثقافات وأديان وعقائد وأرواح .. القوارض لاتشبع ولاتتوقف الا عندما تسمع الموسيقا .. موسيقا السلاح والحب والعبقرية السياسية ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى