ميخائيل عوض | كاتب وباحث
جهينة تحسم في مسالة العلاقات الايرانية السورية بقولها؛ هي استراتيجية جذورها ضاربة منذ خمسين سنة مرت، ومستقبلها ربما اكثر، تنغصها تباينات واختلافات في التقدير، والرؤية والمشروع الاستراتيجي. وتتعارض في ساحات الا انها راسخة رسوخ الجبال فقد تأسست على ثوابت لا حياد عنها منها؛
- تحرير القدس وفلسطين من البحر الى النهر وانهاء وجود إسرائيل والاطلسي وتامين الاقليم مستقلا تديره شعوبه الحرة- اقله هذه التزامات ايران المعلنة والتي لم تحد عنها-
- لن تتخلى واحدة عن الثانية ولن تبيع وتشتري فيها وستدافع الواحدة عن الثانية بما امتلكت وبما توفر لها، فعلها الاسد الاب وردت ايران الخامنئي.
- تديران الخلافات والاجتهادات والتباينات فيما بينهما بالحوار والتفاعل، وترك الزمن يفعل فعله، ولا تجعل من الصغيرة كبيرة ولا العكس، فكل شيء بميزان الذهب ومبضع جراح العيون، وعدسة النانو ولكليهما قيادة براغماتية ودول عريقة وراسخة تجاوز اعمارها الاربعين – فقد بلغتا سن الرشد والنبوة- .
- لسورية عربيتها وعلمانيتها المؤمنة، وطبائعها، وبنيتها الاستثنائية، ولايران اسلامها الولائي، ونفوذ في العراق ولبنان واليمن والعلاقات العربية الايرانية تفاصيل وخاصيات يحترمها الفريقان ويحاولان بالحسنى والتفاعل لإدارة التباينات واختلاف الآراء والتوجهات.
- ما دام المشروع الايراني يلتزم شعار تفاعل الامم والدول في الاقليم لإدارة شؤنهم بدون تدخلات خارجية فسورية قادرة على لعب دور منصة التفاعل والحوار وتدوير الزوايا بما لها من مكانة ودور وقيم وبما ان مصر والسعودية ايقنت ان الخيارات الاستراتيجية تقتضي الخروج من عباءة امريكا والاطلسي فجميع القضايا والساحات ونقاط التباين مع ايران يمكن تسويتها والتفاعل لتامين حلول لها، والمصالح كما قيم الحقبة التاريخية تقتضي اعلاء شان التفاعل والمصالح بديلا عن الحروب وتسعير الصراعات والاحتراب، وما يجمع بين ايران والعرب منذ صدر الاسلام اكبر بكثير مما يفرق او من الذي كان بين فرنسا والمانيا وبريطانيا….
- ما بعد تحرير فلسطين وطرد الامريكي والاطلسي الحلم المنشود والممكن التحقق في الجاري من الايام – عندما يحصل ، فالزمن يقرر بنفسه ما الذي سيكون ومن سيحكم ولمن الريادة والسيادة والامر.
المطلوب الان حشد الجهد والقوة لتحقيق الغاية لا الاختلاف على جلد الدب قبل اصطياده. وايران لم تقصر في الاسناد والاعداد والقضية تبقى في جوهرها عربية ومسؤولية التحرير اولا على العرب .
- اي كانت التباينات واختلاف الرؤى في الساحات والخيارات والعلاقات الا ان تعرض سورية لعدوان امريكي في شرق الفرات او الجنوب او من اسرائيل فايران في قلب الحرب بدون حساب او تردد، وفيها لا تحسب الكلف المادية او الروحية بل تنشد النصر باي ثمن.
وتختم جهينة لتسكت عن الكلام المباح؛
ايران التزمت وقدمت للقضية العربية المركزية ما لم يقدمه الكثير من العرب، وامدت المقاومات ودافعت عن سورية واسهمت باستنزاف الغرب والدول والاحلاف في العرب والاقليم، واوفت بالتزامات ثورتها بالتمام والكمال، وهي ليست ملزمة او معنية ولا تطوعت لإنهاض العرب وبلورة مشروعهم وعصرنته وليس من شانها ان ينهضوا ويتحدوا ويستعيدوا مكانتهم وقيمتهم، ولايران مشروع وقد تميزت بصفتها امة فارسية عريقة وشقت طريقها واختارت نموذجا ونجحت بان تحولت الى قوة اقليمية وازنه ومؤسسة في العالم الجديد. وثورتها الميمونة أيقظت الشيعة في الامة والعالم وتحملوا وزر وكلفة المقاومة وقيادتها واستنزاف الغرب وتحالفاته والنظم الموالية له، وبذلك حققوا انجازات واسهموا مع ايران بتوفير الشروط وانضاج الفرص للعرب وسواهم من امم الاقليم وشعوبه وان هم نهضوا فلن وليس لإيران ثارات عندهم ولن ولا تستطيع تنكب مهمة التحول الى قوة استعمارية او احتلالية، وتاليا لن تعيقهم بحسب التزاماتها وقيمها وما يجمعها بالعرب منذ صدر الاسلام. وان ارادت فلا تستطيع وهذه بذاتها تمثل قوة وقاعدة اطمئنان لإمكانية ادارة مستقبل الاقليم بالحسنة وبتفاعل وتقاطع المصالح.
في ذات النسق فالعلاقات السورية الروسية الايرانية ليست بعيدة عن الثوابت والاساسات وان كان تحرير الجولان وفلسطين ليست على جدول او من التزامات روسيا. بينما تفكيك الاطلسي وطرد الامريكي مسالة اتفاق وتفاهم ذات طابع استراتيجي مع محور المقاومة….. وكذا تسعى الصين في مشروعها الاستراتيجي الطريق والحزام ولكلا القوتين نهج وطبائع وتاريخ يختلف جوهريا عن طبائع وتاريخ العالم الانكلو ساكسوني العدواني والاستعماري وصعودهما يوفر الشروط والاسس والحوافز العالمية لتفاعل امم الإقليم وفي الاصل العرب والفرس…
تختم جهينة بتطمين السورين بقولها مهما كانت التباينات واختلاف الآراء والتقديرات والمصالح بين سورية وايران وروسيا والصين الا انها لا ترقى لتصير اساسية وتبقى تعارضات تكتيه، يمكن احتوائها وعلاجها بالحسنى وبما يضمن استمرار التحالفات الاستراتيجية…. وبما يمس الدعم المالي والسلعي لتمكين سورية من احتواء ازمتها، ومعالجتها فلا من عادات سورية ان تشحذ ولا ايران او روسيا والصين في منطق السياسة والتحالفات والعلاقات بين الدول والامم، كرم على درب، فالحبيب لأحبابه والعدس بترابه…
برغم كل ما تقدم فعلى سورية في ازمتها الاجتماعية الاقتصادية قلع شوكها بيدها واعتمادها على نفسها وقدراتها، فما حك جلدك مثل ظفرك…وقم انت بجميع امرك….
والمنطقي ان سورية ليست ولم تكن واهمة وليس من قيمها ان تنتظر المن والسلوى من الاصدقاء والحلفاء، فكما هي لم تبعهم برغم العروض المغرية والمجزية، هي لا تبني سياساتها ومواقفها والتزاماتها على الحسابات المادية وجدوى الربح والخسارة المالية والمادية بل تبقى حساباتها وتبني صداقاتها وتحالفاتها على قيمها وثوابتها والتزاماتها ولا تهاب عدو او ثمن ولم ولن تقبل مسا بسيادتها ووحدتها المجتمعية، ولا تقبل قيودا على حرية قرارها وخيارتها. فعلتها مع العرب وتحالفت وتبنت ايران وثورتها، وفعلتها برفض الاغراءات ولم تتخلى عن ايران والمقاومة وفعلتها بوجه ايران ولم تقبل دستورا ايرانيا لسورية ولا سهلت الوساطة لتقاسم الدولة مع الاخوان المسلمين. وفي موسكو وبعد القمة مع الرئيس بوتين اعلن الرئيس الاسد انه لن يلتقي اردوغان ولن يعقد قمه معه قبل انسحاب تركيا من الاراضي السورية وتفكيك جيش الارهاب التركي…..
وسورية التي انهكتها الحرب وكلفتها ويدق بابها الجوع لم تمد يدها للدائنين ولا فاوضت لتمويل الدولة او الحرب بالديون ومازالت حريصة على مد رجليها على قد بساطها وهذه من المؤشرات النوعية على قدرتها لتحمل كلفة الحرب والازمة والصمود وتامين مستلزمات الاعمار والنهوض عندما تزف الساعة ولن تموت جوعا او ترفع الراية البيضاء.. تجوع الحرة ولا تأكل من ثدييها …
في الاسباب الموضوعية والذاتية لما هي عليه سورية..
اي الخيارات وما الاحتمالات المكنة…؟؟
في الواقع ومجرياته؛
طالت الحرب واستهلكت ودائع السورين، والمنظومة في لبنان شفطت مليارات الدولارات السورية المودعة في القطاع المصرفي، واستنزفت احتياطات الدولة التي كانت مجزية، ونهبت المعامل ودمرت البنى التحتية وفقدت سورية كتلة اساسية من قوتها المنتجة وكوادرها المتعلمة والمهنية، بالحرب او بالهجرة، وهجرها الصناعيون والتجار ورجال الاعمال والمهنيين العريقين. وتعطلت دورتها الاقتصادية وتقطعت اوصالها، واحتلت ونهبت مناطق الثروات المائية والزراعية والنفطية، وتراجع الانتاج في شتى القطاعات وتعطلت القطاعات الخدمية التي ساقتها اليها الليبرالية في الحقبة الدردرية” والقطاعات الخدمية لا تتناسب مع خيار المقاومة ولا تؤمنه” وبيع او تمت تصفية القطاع العام الانتاجي بينما تضخم قطاعها العام الطفيلي. وزاد ترهل الدولة والمؤسسات واصلا هي مصابة بالشيخوخة وتقادم تشكيلاتها وادائها ومتضخمة، وكتخمة بالبطالة المقنعة، وتبطش فيها البيروقراطية والفساد، وبلغ العاملين مع الدولة وغير المنتجين اكثر من مليون وثمانمائة موظف ومتعاقد والمؤسسة العسكرية وملحقاتها قريبة من هذا العدد.
١٢ عاما من الحرب والاستنزاف والتدمير الممنهج لقطاعات الاقتصاد وتقطيع الاوصال والعدد المهول للحواجز العسكرية بمبرر وبلا مبرر عسكري او امني، وبتدمير سكك الحديد وخطوط النقل ونقل الطاقة، زادت الكارثة والازمات مفاعيل واثقال على الدولة والاقتصاد والمواطنين على اختلافهم، وادت التطورات برمتها الى سحق الطبقة الوسطى، وزياده مناسيب الفقر، والفقر المدقع بحسب الارقام والتقارير المتداولة اكثر من ٩٢ %…
في حال سورية ينطبق عليها وصفة الكارثة بكل ابعادها ومجالاتها، ولو اصيبت بما اصاب سورية امبراطورية عاتية ومترامية الاطراف لجاعت ومرضت وانهارت.
كيف ولماذا صمدت سورية ومازالت تقاتل هذه من جعبة اسرارها وخزائنها وقد اصبح نموذجها نطاق دراسات الجامعات ومراكز الابحاث العالمية والسؤال كيف استمرت الدولة بتمويل موظفيها وتامين الحاجات الماسة بما تيسر وتأمن…
السؤال الان هذه السورية السر والمعجزة وبعد كل ما جرى هل مازالت قادرة على الصمود ام بلغت حد الجوع والانهيار، ويزيد من إلحاحيه السؤال ما تشهده محافظتي درعا والسويداء من توترات وتحركات ردا على قرار الحكومة برفع الدعم عن المحروقات والسلع، وقد اعلن القرار بعد صدور مرسوم مضاعفة الرواتب والاجور وترافق مع سعار ارتفاعات فلكية لأسعار الحاجات وكلفة الحياة ومع انهيار للعملة الوطنية.
يضاف ان حملات اعلامية وتهويلية عن حشود امريكية اطلسية حربية ترافقت مع التطورات وكثير من التسريبات عن قرار امريكي بإقفال الحدود السورية العراقية وبانتزاع محافظات الجنوب والغرب من سورية في اطار هجوم امريكي معاكس لإسقاط سورية وتفتيتها، وقطع طريق دمشق بيرت بغداد ومحاصرة روسيا في سورية وواد مشروع الطريق والحزام الصيني، تمهيدا لتصفية محور المقاومة وتدمير ايران.
في الجاري واقعيا وفي العالم الافتراضي تبدو الامور اكثر من كارثية واعمق من عصيبة وعصية عن الاحتواء والمعالجة غير ان الحق يقال هذه سورية وقد عجز الكل عن فهمها وفك طلاسمها وفي هذه الحرب والازمات فاجأت الجميع الاصدقاء قبل العداء والسؤال لماذا لا تفعلها ثانية ومن بوابة الحال الاقتصادية المزرية فتصيغ وتقدم نموذجا مفاجئا…؟؟
هل تملك من قدرات وفرص؟؟ واين وكيف تجسدت مكامن الازمة ومسببات حالة الاستعصاء البادية؛
في الواقع والمعطيات الموضوعية، تبدو الحرب ومثالبها وطول مدتها ومسارحها وفروع الحرب التي اختبرت سببا رئيسيا لما هي علية سورية، وزاد في الطنبور نغما عدوان الحصار وقانون قيصر واخواته، والعقوبات والاخطر منها انضباط لبنان والعراق المفترض انهما في قلب المحور، والمشاركة في فرض الحصار وتطبيق الاوامر والاملاءات الامريكية دون امتناع او مقاومة وحتى بلا محاولات لكسر الحصار في الواقع وخلسة، وفي المعطيات السياسات والادارة التي تمكنت من سورية مع حقبة الحريرية في لبنان ومكملتها الدردرية في سورية وخلالها تمت تصفية القطاع العام الإنتاجي وتدمير القطاع الزراعي والصناعي، والصناعات المهنية والورشات العائلية، وفتحت سورية للأسواق التركية والعربية، وهيمن قطاع التجار، الوسطاء والوكلاء للخارج، وتم تطبيق شروط الشراكة الاوروبية قبل ودون توقيعها وخلسة عن الرئيس والقيادة كما طبقت وصايا صندوق النقد دون نقاش او عرضها وتبنيها، والانكى تمت تصفية مخزون القمح والغذاء بذرائع واهية، وعوملت منطقة شرق الفرات والثروات النفطية والغازية والمعدنية بتجاهل وازدراء. وسوقت نظريات ان ابار النفط والغاز استنفذت واصبحت كلفتها اكثر من جدواها، وكان الامور جرت تساوقا مع خطط استهداف تأهيل سورية للفوضى والحرب العالمية العظمى التي فرضت عليها. والحق يقال ان ليس بالضرورة ان تكون مؤامرة مقصودة، وغالبا كانت ابتلاء بفعل سيادة الليبرالية ونهج الاقتصاد الحر استدرجت اليه سورية خلسة وبقوة الموجه وبغياب النماذج العالمية المختلفة والقاطرة، وكل ما يؤخذ على سورية وحقبتها تلك انها لم تنتج نموذجها الخاص برغم ما بذلته القيادة من محاولات ودراسات للتجارب وسعي محموم لاستخلاص الدروس والعبر وتفصيل نموذج سوري لم توفق اليه.
ومن الاسباب العميقة والموضوعية، ضياع الهوية السورية للاقتصاد والدولة ووظائفها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وغياب القائد المؤسس حافظ الاسد. فورثت سورية دولة ثقيلة وبيروقراطية مرتع للفساد والهدر وتبديد الثروات والطاقات، والتعطيل والعطالة عن العمل والانتاج .
…/يتبع
غدا؛ ماذا عن الاسباب الذاتية وعن السياسات والادارة الاقتصاد والاجتماعية