ميخائيل عوض | كاتب وباحث
ضلت تشغلني اسئلة طوال الازمة والحت بعد ثورة الكرامة وحقوق الانسان التي فجرها الشعب اللبناني كله في وجه المنظومة كلها في ١٧ تشرين ٢٠١٩.
الاسئلة من عيار؛ على ماذا تراهن المنظومة واركانها بعد ان افلست البلاد والعباد؟؟ ولماذا تستمر في ادارة البلاد بالفوضى والفراغات وقد بلغت الفراغات كل المؤسسات وقد لا تنجو منها المؤسسة العسكرية اخر اعمدة الاستقرار والنظام؟؟.
وكيف ولماذا وباي حسابات ورهانات ادارت المنظومة البلاد لثلاث سنوات ونصف ولم يهتز لها جفن ولا ارتهبت من النوائب والنائبات؟. ونجحت في امتصاص الغضب الشعبي، وناورت وهمشت واسقطت التدخلات الخارجية والتهديدات بالعقوبات وبالقضاء الدولي والاوروبي والامريكي، بل امعنت وتمعن في ارتكاباتها فلا تساوم على التمديد لحاكم المصرف المتهم الاول وامين خزنتها واسرارها…
والامر المثير حقا؛ كيف تطبع الشعب اللبناني وقبل الاذلال والمهانة وسرقة امواله وتبديد ماضيه وحاضره ومستقبل ابنائه واحفاده، وتعايش مع التحكم بأنماط حياته ودخله وتقتير تعويضات المتقاعدين وحقوق البلديات والمضمونين وصناديق النقابات واموالها ولم يحرك ساكنا واقتصرت التحركات في الشارع على بضعة اشخاص وفي البرلمان وعند التغييرين بحصاد المقاعد والاعتصام بالمجلس النيابي لنائبين بينما الاخرين يسرحون ويمرحون ويجتمعون ويساومون ويبحثون عن مصالح وانخراط بالمنظومة بين اطيافها بوجوه جديدة بمساحيق لماعة…
والاسئلة تستدرج بعضها وتزيد؛ ولماذا قبلت السفيرة شيا الحاكم الفعلي والقائد للدولة ومؤسساتها ان تكتفي بانتصار بطعم الهزيمة في الانتخابات النيابية على استراتيجياتها للفوضى النيابية غير الخلاقة، وما زالت تتصرف وكأنها حققت نصرا مؤزرا….
وماذا بعد فشل سيناريو الاستهداف عبر القضاء الاوروبي والامريكي والاستثمار بانفجار المرفأ وبالرهان على الحصان الاعرج “المحقق العدلي بيطار” الذي لحس قرارته وعاد الى صمت القبور، بينما المنظومة بفروعها وكتلها المتحكمة نجحت في تفكيك السيناريو وافشاله باهون السبل وايسرها واقلها كلفة، ولم يبقى في ميدان شيا وبين عناصر السيناريو الا جمعية المصارف التي استعجلت تنفيذ الاوامر وادخلت نفسها في مازق يشبه ما صار عليه القضاء ومؤسسته من انقسام وتعطيل واتهام بالارتكابات….
حاكم المصرف يصول ويجول بتعاميمه وعلى الفضائيات ويتعفف التمديد، بينما ملائكته امنوا كل شروط بقائه والتمديد له كسلطان زمانه لا يزيحه الا القدر اذا ومتى شاء ….
مؤكد في الامور قطب مخفيه، وحقل اسرار والا لما سارت الامور على هذا النحو؟! فاين تكمن وكيف جرت وتجري تحولات نوعية في توازنات الطبقة والمنظومة وكتلها الطائفية الحاكمة؟ ومن سيخرج خاسرا بل وربما مدمرا….
في المعطيات؛
برغم انهيار سعر الصرف ووصول الدولار الى ال٨٦ الف ليرة، لم يزل الشارع راكد والحياة مستمرة مع تنكة بنزين بمليون ونصف وربطة الخبز بأربعين الف ليرة. والمؤكد ان هذا لم يكن يجرؤ احد على توقعه قبل سنتين؟؟؟
الجواب فيما كشفت عنه ارقام واحصائيات شركات الابحاث واستطلاع الآراء وقد اكدت ان ٣٤٥ الف عائلة تعتمد في تامين حياتها على تحويلات المغتربين، وان القوات اللبنانية وحزب الله يؤمنون ١٢٥ الف عائلة، بينما ينفق على اللاجئين السورين اكثر من مليار دولار سنويا من الامم المتحدة والمؤسسات وعلى الفلسطينيين من الأونروا والسلطة والمنظمات مئات الملايين من الدولارات وباحتساب ان عدد الاسرة خمسة اشخاص وسطيا فنكون امام ٢،٥ مليون لبناني، واللاجئين بأغلبيتهم الساحقة السوريين والفلسطينيين مؤمنين اضافة الى ان غالبية الشركات والمصارف والجامعات والمدارس بدأت تستوفي وتدفع جزء من الراتب والتعويضات بالدولار ايضا.
هكذا يبطل العجب، فنسبة نجاوز الستين بالمئة من اللبنانيين باتوا امنيين وليسوا متضررين من ارتفاع اسعار الدولار ولهذا نجد الزحمة عند الصرافين اكثر من عند الافران والخبازين ، والباقي من الاسر غالبا تأمنت حاجاتها الاساسية عن طريق الجمعيات والاحزاب والزعامات وتقديماتها ولو بالقطارة.
اشارت الارقام المتداولة على ان حجم التحويلات وكلها للإنفاق وليس للتخزين او الايداع في المصارف التي فقدت الثقة بها تقارب سنويا ال٨ مليار دولار، وما ينفق من تمويل سياسي ولاجئين وعلى رعية زبائنية الزعمات بحدود ٢ مليار دولار اضافة عن المال السياسي ويقال؛ ان صادرات لبنان بحدود ملياري دولار ما يعني ان الدورة الاقتصادية الريعية في حالة توازن بين تمويل المستوردات والكتلة النقدية الدولارية، يضاف الى ان المستوردات اللبنانية التي بلغت السنة المنصرمة ١٩ مليار دولار جزء اساسي منها لتلبية حاجات الاسواق السورية ومن غير المنطقي انها لتامين الاستهلاك اللبناني الذي انخفض الى النصف على الاقل، اي ان حاجات تمويل الاستيراد لتامين الضروريات اللبنانية لا تزيد عن ١٠ مليار دولار مؤمنه وهذا ما يفسر الاستقرار الاجتماعي والسياسي والشعبي ويفسح بالمجال لدولرة الاقتصاد بما في ذلك التسعير بالدولار للخبز والغذاء والمشتقات النفطية واشتراك المولدات، دون حراك اعتراضي في الشارع.
زلزال وسلسلة لامتناهية من الهزات ضرب الشرائح التكتونية للطبقة السياسية والمنظومة، تم بموجبها خلال السنوات الثلاث على ثورة الكرامة تغيرات جوهرية في توازنات المنظومة وكتلها، فانهارت السنية السياسية وتراجع دورها حديا في السياسية والدولة والاقتصاد بعد ان همشتها واختصرتها الحريرية السياسية المنهارة ، ونزحت قواها ونخبها، كما ضربت الهزات واصاب زلزال المرفأ الكتلة المسيحية، وجاءت هزات المصارف، والقضاء، والصراع بين القوات والباسيلية والجنرال جوزاف عون ومع فرنجية والقوميبن، لتكشف الكتلة السياسية والاقتصادية في المنظومة وقد تقلص دور المسيحية في الاقتصاد حديا كما في البنية السياسية للنظام والمؤسسات، ولم يعد لها وزن يذكر، ولا قرار فاعل يحمي ما تبقى من مراكز وصلاحيات ومكانة فالمراكز الاساسية في القضاء ومجلسه وفي الجيش والامن وفي المصرف المركزي والقطاع المصرفي اصبحت هامشية لا حماية ولا تامين لها ولا قرار او صلاحيات فاعلة باقية، كما في الاتحاد العام للعمال ونقابات الاطباء والمهندسين والمحامين التي كانت بمثابة حصون، وكل هذا جرى وتم تحت جناح الفراغات والفوضى الضاربة في الدولة والمؤسسات والمجتمع.
هكذا يمكن فهم موقف حزب الله الذي يعرف واعلن على لسان السيد وقادته بانه يتعايش مع نفوذ شيا والسفارات في المؤسسات، واختراقاتها للدولة، واستراتيجياته عدم تصفيتها بل اشغالها بالقشور بينما التغير النوعي الكاسر يكون في البنية العميقة للمنظومة، وليس في الدولة والمؤسسات التي لم تكن يوما الا شكلانية، وكشفت ازمة القضاء والحكومات والفراغات حقائق الامور والمعطيات…
كيف والى اين تسير التطورات والتوازنات؟؟
الراجح لا ثورة شعبية عاصفة قادرة على اسقاط النظام والمنظومة.
لا انهيار ولا ارتطام دراماتيكي.
لا فاعلية للتدخلات الخارجية وادوات الخارج خاصة امريكا واوروبا فقد باتت عابرة وقشرية، وقد اجهضت فاعلياتها ولم يعد لها لكثير من التأثير النوعي.
لا امكانية للكتلة المسيحية والسنية في المنظومة وليس لها من قدرة على استعادة وزنها او دورها حتى في الصفقات والمحاصصة. وتاليا وبعد ابلاغ السفراء وبينهم الامريكية رئيس المجلس النيابي بعدم الاعتراض على انتخاب فرنجية رئيسا… واذا سارت امور العلاقات السورية السعودية- العربية على المتوقع فتصير الامور سلسلة لإنجاز استحقاق الانتخابات الرئاسية، لتؤسس للمزيد من الاستقرار واحتواء الازمة. ويزيد من احتمال احتواء الازمة انفراجات عربية تنعكس في لبنان بانفراجات اعلامية وسياسية واقتصادية، توفر المزيد من الاسباب والشروط لفرصة لبنان بالشروع في استكشاف واستثمار الثروات البحرية والبرية، والافادة من اعادة اعمار سورية والعراق وما سيكون من تحولات في الغرب والاقليم.
هل نجى النظام من وجوب احداث تغيير جوهري في بنيته وطبيعته؟؟؟
هل تتحقق مهمة اعادة صياغة وتطوير وظائف الكيان ليبقى حيا ويستمر ؟؟ ومن وبمن وكيف سيعاد تنشيط الدولة واجهزتها ومؤسساتها وبأي حصص وتوازنات وميثاقية…..
ذلك ما تكشفه الاسابيع القريبة القادمة، فأذار مقدمة الربيع وينكشف ما تحت الثلج الذائب حتما في ايار…
ما مستقبل المسيحين وقد انهارت كتلتهم في المنظومة، واصبحت ثلاثيتهم السياسية والدينية اضعف من ان تمون على شيء. فبينما الباسيلية مرتبكة ومستنزفه بالمعارك الدينكوشيتيه، ويبدو ان انكفاء القواتية سيكون طويلا مع مؤشرات تبلور مسارا ايجابيا للعلاقة الخليجية – السعودية السورية. والبطريركية والرهبانيات تراجع وزنهم بفعل صراعات القوى السياسية وانهيار دور الكتلة الاقتصادية المسيحية، وتأثر دورها كثيرا بتراجع الوزن العددي والنوعي للمسيحيين، وبتناتش القوى والزعامات الحصة المسيحية والاحتراب على التمثيل لتحصيل حصص في النفط والغاز الموعود…
فالحالة المسيحية ومستقبلها بعد ان فقدت دورها في الكيان والنظام الذي صمم لها، امر يحتاج الى تعميق البحث والجرأة في النقد وتفعيل الحوار العقلاني التفاعلي الامر الذي سنحاوله قريبا….
وسنحاول الاجابة على سؤال المرحلة؛ هل تستطيع الجهة التي ورثت النظام والدولة مدمرة ان تعيد انتاجه وبناء دولة عصرية قابلة للحياة وقادرة على ابتداع وظائف للكيان؟
الحوار العقلاني والتفاعلي مطلوب قبل خراب البصرة حيث لا ينفع الندم…