ميخائيل عوض | كاتب وباحث
على اثر هيمنة امريكا وتفردها بإدارة النظام العالمي، سادت تنظيرات نهاية التاريخ، وسقوط الايديولوجيا، والاحزاب المنظمة، وسيادة الاقتصاد الحر والليبرالية الهمجية، وتمت عماية ضخها وتسويقها بقصد وعن سبق تصور في عملية تشويه منظمة وبداب وبأكلاف مهولة، لاحداث انماط من الدول والحركات السياسية والنقابات والتشكيلات الاجتماعية والمعارضة واللوبيات بما يخدم القوة المهيمنة والساعية بعدوانية لتعميم نموذجها وثقافتها واقتصادها وانماط حياتها على الجميع وبكل الوسائل.
فظهرت بديلا للأحزاب والنقابات واللوبيات المنظمة والممثلة لمصالح قطاعات اجتماعية منظمات المجتمع المدني والngos الهلامية وغير المنظمة وغير المنسجمة وغير المحددة ببرامجها وتمثيلها لقطاعات وجماعات مجتمعية واجتماعية، ولعبت تلك الجماعات اللقيطة والمصنعة ادوار محورية في قيادة الثورات الملونة وتحقق للجهات التي مولتها وادارتها مكاسب جمة في دول الاتحاد السوفيتي السابق وفي امريكا اللاتينية والكاريبي وفي العرب بما سمي بربيعهم الاسود.
ولتعزيز دور تشكيلات الngos نشطت تنظيرات الثورات بلا قيادات وقد شهد لبنان والعراق والسودان واحدة من تلك الثورات الملونة والتي اصر المؤثرون فيها على منع تشكيل مجموعات عمل منظمة وكتل تاريخية حاملة لمشاريع التغير الجدي، وعممت مقولة الثورة لا تحتاج الى قيادة وتنظيم وتحالفات وادارة فانتهت الى عدد من النواب في البرلمان وليس فيهم او منهم تغييري واحد، ونسبت اطراف سياسية في المنظومة لنفسها دورا قياديا في ثورة ١٧ تشربن ٢٠١٩ وكذا في العراق.
على ذات النسق ظهر في الواقع المعاش لعدد من الدول ظاهرة الدول بلا حكومات، كمثل ليبيا، السودان، العراق، لبنان، افغانستان، والصومال، واديرت البلاد لحقب طويلة بلا حكومات وعبر ادوات ومؤسسات ومافيات تنتمي الى ما يسمى في الاقتصاد الحر اليد الخفية في ظاهرة تتنافى مع تعريف الدول، ومع تقاليد المجتمعات منذ انتقلت البشرية من المشاعية الى العبودية والتشكيلات الاخرى وصولا للرأسمالية والليبرالية.
لماذا ثورات بلا قيادات، ودول بلا حكومات؟؟ وهل الامر بريء او هو نمط جديد لتشكل الدول والهويات والنظم؟
في واقع الحال كل الثورات التي جرت بلا قيادات انتهت الى تحويل المجتمعات للفوضى والاحتراب الاهلي وعودة المجتمعات الى هوياتها المؤسسة؛ قبائل وطوائف واديان وتصارعت بينما اليد الخفية حكمت واستثمرت ونهبت الثروات والودائع والمدخرات وحولت المجتمعات الى جمهور متسول جائع يفتقد لأبسط الحاجات الحياتية فدولة كالعراق بلد الثروتين المائية والنفطية صار بلا ماء وبلا كهرباء ومحروقات بينما نهبت منه ثروات واموال تزيد عن ٢ تريليون دولار ولم تبنى فيه مدرسة او مشفى او جسر واو طريق.
الامر ذاته في ليبيا وفي لبنان الذي نهبت ودائع المصارف والنقابات والباديات والضمان وتعويضات المتقاعدين واديرت الدولة ومازالت بالفراغات والفوضى… هكذا نعرف بان ادارة الدولة بالفراغات وبلا حكومات لم يكن امرا عابرا ولا عفوا انما مخطط وتقف خلفه جهات ويد خفية ولوبيات نصب ولصوصية تعمل عند قوى خارجية ولتحقيق مصالحها.
اذن؛ هناك من يدير ويسير الامور ويؤمن فرص النهب والاستئثار، وهو ذاته اليد الخفية وهي مجسدة بأدوات وعملاء ووكلاء لا شركاء القوى المهيمنة عالميا والتي اشاعت عن قصد وبالقوة وبمختلف الوسائل والحروب انماطها وثقافاتها وقيمها، فاليد الخفية التي تدير الثورات بلا قيادات والدول بلا حكومات هي اجهزة الامن المتحالفة مع المافيات واللصوص ويدارون ويوجهون من السفارات ورأسهم الامريكية وفي لبنان يبدو النموذج واضح وساطع لا يخفى على عاقل ومتبصر.
اما والقوة المهيمنة عالميا واقليميا بدأت تنحسر، ويسقط نموذجها وتسقط قيمها وانماط حياتها، فماذا عن الثورات والدول هل تستمر على ما ارادته السياسات التدخلية الامريكية؟ وهل تتحول انماط الثورات البلا قيادات والدول البلا حكومات حقائق ووقائع تعاش في المستقبل؟؟
واقع الحال ينفي تلك الامكانية، والتجارب تستوجب العودة الى مسارات الأزمنة وحاجات التاريخ ومستلزمات الجغرافية وتلبية حاجات البشر، وكل هذه تقتضي ثورات بقيادات وبنظريات وبمؤسسات وقوة منظمة، ونموذج المقاومة الاسلامية وايران وسورية المنتصرة في الحروب الكبرى والعالمية العظمى، والتجربة الصينية شديدة المركزة والتدخلية للدولة والحزب والحكومة والتخطيط والادارة والاشراف المركزية شواهد قاطعات على اهمية التنظيم والادارة والقيادة والحكومات في الدول لنامين وتنمية المجتمعات وتلبية الحاجات، غير ان ما تحقق في الواقع واقع الدول التي ضربتها كوارث الدول بلا حكومات والثورات بلا قيادة تفيد ايضا بانها مجتمعات وجغرافية ونظم فقدت دورها الوظيفي وانتفت اسباب استمرارها وتبد اسرائيل احد نماذج افتقاد الدور الوظيفي وفي سياق التحولات العالمية والاقليمية ومفاعيل الثورة التقنية الرابعة وجائحة كورونا وثورة الذكاء الاصطناعي تحتاج تلك الدول والمجتمعات الى اعادة هيكلة جغرافيتها ونظمها فلم تعد الحياة البشرية وتامين الحاجات تتسع لنظم وجغرافية ودول وثورات مصنعة لتخديم مشاريع امريكا وعالمها الانكلو ساكسوني الذي اغربت شمسه ويتراجع سريعا ويعاني من امراض الشيخوخة واعراض الموت.
فالحاجات والتطورات ذاتها تفترض من الدول التي اديرت لزمن بلا حكومات وللدول التي ضربتها الثورات بلا قيادات ان تندمج او تلتحق او تتشكل في جغرافية وبنى اجتماعية جديدة واعادت تصنيع نظمها على توازنات وبقواعد ولتخديم مهام من طابع جديد فقد حكمت التجربة الانسانية ومراحل التطورات البشرية والتشكيلات الدولتيه بان لا مكان للدول والنظم والجغرافية الصغيرة والمصنعة لخدمة الاخرين والخارج، والمحدودة والمنغلقة ولن تنجح ولن يكتب لأصحاب دعوات التقسيم والتفتيت وتصغير المقسم وتفتيت المفتت من مكان او زمان او قدرات لإنفاذ مشاريعهم الواهمة والعتيقة فحاجات الازمه وحركة التاريخ واليات توليد المستقبل لن ولا ترحم وستفرض نفسها بقوة القانون والحاجة وتسحق من يعاندها.
ان زمن سقوط الايديولوجيا، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات قد ولى وزمن عودة لبشر الى قواعد وقوانين وقيم انتظامهم وتامين حاجاتهم وحقوقهم قد دنت، وللتطابق مع الازمنة والحاجات باتت الضرورات تلح لإعادة صياغة الدول والمجتمعات على قيم العصر وحاجاته وانتاج الحكومات والثورات بإنتاج النظريات الثورية والقيادات والاحزاب والتشكيلات التاريخية المناسبة.