ميخائيل عوض | كاتب وباحث
طهران الباسمة لتي استقبلتنا بفرح، وكرم، وازدانت بصور واقوال القائد الشهيد البطل العالمي قاسم سليماني، لم تفاجئها الهجمة الشرسة والحرب المركبة التي تستهدفها في بنيتها بشدة وتركيز وحملات تضليل وفبركة في حرب اعلامية ضروس وبأكلاف فلكية وتشارك فيها عشرات الدول والاجهزة والاف الوسائط ودور الخبرة والدراسة والتخطيط… بوهم القدرة على العبث بالاستقرار وسوق ايران الى السيناريو السوري او اسقاط نظام الجمهورية الاسلامية بعد ان عجزت الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات والجهود في كل الحروب وعلى مدى ٤٤ عاما في التأثير على صمودها وصبرها التي حولتهما ايران الى عنصر مناعة وقوة وقبلت التحدي وخاضت الحروب كافة وبكل الفروع والمستويات والادوات والجيوش والمسارح، وانتصرت فيها وتحولت الى قوة اقليمية وازنه كدولة فضائية ونووية ومنتجة لسلاحها الاكثر تقدما وتقنية وقد اثبت فعاليته في الاشتباك مع امريكا نفسها ومباشرة ومع وسائطها وحلفائها وادواتها وقواعدها وخبرائها في لبنان وسورية وفلسطين واليمن وحقق السلاح الايراني تفوقا كاسحا وخاصة سلاحي الصواريخ والمسيرات التي تقدمت ايران بصناعتها كدولة بين الاوائل في هذا الميدان.
والاهم ان ايران عبرت سن الاربعين وباتت في منتصف العقد الخامس ولم تظهر عليها اية من علامات الشيخوخة او التقدم بالعمر.
عمر الاربعين في علوم البيولوجيا هو ذروة الاكتمال وبعده يبدا العد العكسي، وفي علم الاجتماع وقواعد التاريخ وتجاربه هو عمر النبوة والنضج واكتمال النمو الادراكي والعقلي، والجسدي، وهو عند ابن خلدون والأنثروبولوجيين عمر نصف الولاية فالإمبراطوريات والدول تعيش حتى الثمانين وبعضها النادر حتى ال١٢٠، وهذا ما تقطع به التجربة، ومن يبلغ الثمانين ويكمل لا بد انه في الاربعين قد جدد شبابه، وفي ريعانه وصباه قد اعد نفسه جيدا بممارسة شتى انواع الرياضة والاهم الفكرية، واهتم بتغذيته، وبوظائف الجسم ومن لم يفعلها اصلا لم ولن يصل للأربعين وعلى الاغلب لم يكمل العشرين” الناصرية”.
وكما هي حقائق الحياة ودروسها التي جزمت بان الوعي والمعرفة والتصميم والارادة والسعي الدؤوب لتحقيق الاهداف عناصر تجوهر الاعمار والاجساد والاذهان، وتصقلها فتؤخر ظواهر وادلة الترهل و الشيخوخة واحيانا تمنعها من الضهور، كذلك كانت تجربة ايران الثورة الاسلامية التي لم تهدأ قط واعدت نفسها وادواتها منذ اللحظة الاولى على قياسات تحقيق الغايات البعيدة والاستراتيجية. وهي لم تترك لشانها بل عرضت باستمرار وعلى الدوام للتحديات والحروب والعدوان والعقوبات والحصار ومحاولات التخريب والتفكيك وجرت رهانات كثيرة على الاستثمار في بنيتها وتشققاتها وتباينات كتلها وتشكيلاتها، ولأنها اعدت نفسها بمعرفة ووعي مسبق وتخطيط محكم انتصرت بجهدها ووعيها ومعرفتها وبتضحيات جسام وعملت بتواصل لإتمام مشروعها ولتحقيق غاياتها ولم تنكسر ولم تستسلم ولا راوحت في المكان ولا تأخرت عن توفير عناصر وشروط الانتصار وخوض التحدي والبناء. وهذا احد اسرار بقائها شابة يتقدم بنا العمر وهي في كل سنة تزهر وتتألق وتصير اكثر شبابا.
وايران الثورة التي اشتقت شعاراتها الخاصة وغالبت التوازنات الدولية وتمردت عليها لتتفرد ولتمتلك سيادتها واستقلالها وتفرض خاصياتها ونموذجها المتمرد على النموذجين الحاكمين حينها رفعت شعارها: لا شرقية ولا غربية بمعنى انها عارفة وعازمة على اشتقاق نموذج مختلف كمبدعة وفاعلة غير مقلدة ولا مفعول بها وهذه ثاني الخاصيات.
والثورة التي اشتقت شعاراتها من القران الكريم ومن خط ونهج وسيرة الامام علي وابي ذر الغفاري والحسين وكربلاء ادركت وصممت ان تختص ايضا بنموذج اقتصادي خاص، لا هو رأسمالي ليبرالي متوحش ولا هو اشتراكية الاتحاد السوفيتي ذات الطبيعة الاستثنائية وبالخاصيات الروسية، فرفعت الآية الكريمة؛ ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.. شعارها الاجتماعي وناظم هيكليتها واستهدافات بناها الاقتصادية والاجتماعية وتحفظ القران الكريم وآياته عن ضهر قلب وتعرف انها متصلة بأية القتال في سبيل الله والمستضعفين؛” وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ” وعليه اقامت الثورة نموذجها الاقتصادي – الاجتماعي بخاصيات واليات” اسلامية- علوية- حسينية” لا على نموذج شيوعي ولا على قياس نموذج رأسمالي – ساكسوني بل اسلامي على مذهب علي والحسين وابي ذر وهم من ال البيت وممن ناصروا الفقراء والمحتاجين وجدوا واجتهدوا لتأمينهم وخدمتهم، وللحؤول دون وقوع الاسلام في موقع عقيدة الظالمين والمستكبرين الذين يكنزون الذهب والفضة… “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون”…”تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*…
فقام الاقتصاد الايراني على حوامل متعددة، فالقطاع العام” دور الدولة” يمثل ٦٠ % من الناتج القومي ومن القيم والحركة الاقتصادية يقوده جهاز الولاية ومؤسسة ولي الفقيه والحرس الثوري، بينما تولى القطاع الخاص ٤٠% من الدورة والعملية الاقتصادية ونمى دوره برعاية من الحكومة ورئاسة الجمهورية، وتلعب الحوزات الدينية والمراقد بقدراتها المالية الهائلة دورا في تامين الفقراء والمستضعفين…. وبذلك وعن وعي ومعرفة ودقة تصميم تمت هندسة النظام السياسي ثنائي وكانه دولتين في دولة، وهذه ايضا خاصية استثنائية ومنتج ايراني.
والثنائية في الهيكلية الاقتصادية والنظام السياسي نظمت العلاقة بينها بتقانة ومنهجية وتمت حمايتها ومأسستها في الدستور وقواعده ومواده، وتعدد مؤسساته، وتنوعها بحيث اصبح الدستور والمؤسسات وعاء يتسع لكل الطبقات والفئات والفاعليات ويستطيع امتصاص التحولات والتناقضات الناشئة على الدوام في المجتمعات الحية والحيوية، ووفر بيئة تعايش وتفاعل بينها واحتواء كل جديد فكانت ثنائية الاصلاحين والمتشددين التي اتقنت الولاية وولي الفقيه والمؤسسات الدستورية الافادة منها وتوظيفها في احتواء التناقضات والصراعات وتحويل التعددية والتنوع الى عناصر بناءة ايجابية لا سلبية” نعمة لا نقمة”، وفي الافادة من جديدها وتامين التفاعلات الخلاقة بين جميع المكونات، وايضا تطمين الاخرين وارباك الخارج والذين يستهدفونها وتركهم في حيرة يراهنون على التوازنات الداخلية وتوتراتها وتحولاتها بينما مفاتيح الحل والربط واطفاء الحرائق وتبريد التوترات ومنع الاشتباك ممسوكة بقوة والاهم بحكمة واقتدار ووعي وقد صيغت هذه المواصفات وصقلت القدرات في سنوات النضال والحكم وتفاعلت مع مؤسسات الدستور وضوابطها ومع المجتمع وقيمه ووعيه الجمعي الذكي وذو الخاصية النوعية المتجددة دوما والمتجسدة في العزة الوطنية والقومية وتميز الامة الايرانية كأمة عريقة متفتحة واعية متقدمة بالعلوم والانجازات فبصمات الفرس مطبوعة على جبهة تاريخ البشرية وحاضرها ليس فقط ما قبل وما بعد الاسلام ومع العرب وامم الاقليم وإمبراطورياتها الكبرى التي حكمت بتنوير وبالتفاعل والعلم والاقناع على عكس امبراطوريات الغرب الانكلو- ساكسونية العدوانية والهمجية والشواهد كثيرة، فمازال قبر هارون الرشيد يربض في مقام الامام الرضى في مدينة مشهد المقدسة كأعظم مقام والاغنى والاكثر عراقة والاجمل هندسة وتزيين والعظمة كأنها رسالة التذكير بالإمبراطورية العباسية “الرشيدية” .
وقد ارست الخمينية قيما واشتقت نموذجا اسلاميا علويا حسينيا اثنى عشري خاص وسارت بالمرجعية والحوزة من صامته الى ناطقة ومن الشيعية كطائفة ومذهب انتظاري يترقب المهدي المنتظر بسلبية وانغلاق وحزن الى ايجابية بابتداع مذهب ولاية الفقيه ونجحت في تكريسها حالة معاشه وتعاملت بمرونة قصوى مع المذاهب الشيعية الاخرى وحوزاتها واكتسبت المؤسسة الدينية الايرانية الولائية وعيا وخبرة وبراغماتية وفرت لها فرص وشروط المرونة والتشدد في ادارة التجربة الايرانية وفي التفاوض وفي ادارة لعلاقات مع الاصدقاء والحلفاء والاعداء والوسطيين والانتهازيين، وهذه ايضا خاصية وابداع واستثناء ايراني. وبذلك اختلفت جوهريا عن الاسلام السياسي السني بفروعه الثلاثة؛ الوهابية والاخوانية والسلفية وجاوزتهم وحققت ثباتا وانتصارات وقادت دولة قوية راسخة وتتحول لتكون ركنية في المستقبل في الاقليم والعالم” عكس تجربة الاردوغانية في تركيا والنهضة في تونس والاخوانية في السودان ومصر والوهابية في السعودية والسلفية في جهاديتها التدميرية والاشتباكية بين فصائلها وتشكيلاتها ومرجعياتها والعميلة للغرب الاطلسي ” الانكو ساكسوني” ونموذجه الاقتصادي والاجتماعي، بينما الاسلام السياسي السني يندثر ويتراجع بسرعة يبدو الاسلام السياسي الشيعي يتجدد ويجدد نفسه ويتفاعل مع العصر وحقائقه ونتاجاته.
تعززت الثنائيات في البنى والنظم الاجتماعية الاقتصادية السياسية والدولتية وترجمت ايضا بثنائية الجيش كمؤسسة دولتية، والحرس والتعبئة” الباسداران” كمؤسسة ولائية لتامين الولاية وحماية الجمهورية الاسلامية.
هكذا صيغت الجمهورية الاسلامية الايرانية وتقررت ادارتها وانتاجها واعادة انتاجها نموذجا بخاصيات فريدة لا تقليد ولا تابع للشرق او للغرب او لأية جهة او تجربة او نموذج. فهي اصلية واصيله ولها خواصها وعناصرها وعواملها وطبائعها المميزة فقدمت نفسها متجددة الشباب لا تشيخ ولا تهرم.
هذه من الاحاجي والالغاز التي عجز الغرب والاطلسي بكل قدراته وتحالفاته وامواله عن فك طلاسم شيفرتها ولم يفهم ولن يفهم ايران وخسر وسيخسر الحروب معها. والقاعدة؛ انك ان لم تعرف الداء واصله فلن تصرف الدواء المناسب وكل دواء غير مناسب ضار وخسارة.
واهم الالغاز التي لم وقد لا تفهم الظاهرة الخمينية ونظرية الحكومة الاسلامية وولاية الفقيه بما هي اجتهادية نقلت الشيعية من السكون والصمت والسلبية والغيبية- “الغيبة” الى الناطقة والحركية والحيوية والتفاعل مع الواقع والسعي لتغييره بالعمل والتفاعل مع عناصر ونحولات الواقع لتوفير ظروف وشروط تسريع ظهور المهدي المنتظر..
….يتبع
غدا؛ ايران تحتوي الازمة، وتتصلب في وجه الاستفزاز في بنيتها وتتأهب لرد الصاع بأقوى من الصفعة….