كتب موفق محادين | تنافس البرجوازيات التركية وآفاقها

موفق محادين | كاتب وباحث اردني

بالإضافة إلى التعليقات والقراءات السياسية المتداولة التي تناولت الانتخابات التركية الأخيرة، فإن هذه المقالة محاولة لقراءة مغايرة من زوايا ثلاث مختلفة:

1-   أنها جرت بين قوى تمثل شرائح مختلفة من البرجوازية.

2-   أنها مفتوحة على تداعيات اجتماعية داخلية مستقبلية إشكالية جداً.

3-   تصويت إسطنبول ومغزاه.

1. تنافس البرجوازيات

ابتداءً، لا بد من تأكيد وتعميق قراءات مركبة، تجمع بين البعد الطبقي والبعد السياسي والبعد النظري، لأي ظاهرة أو مشهد أو قضية، بما يفوّت الفرصة على لعبة خلط الأوراق والتضليل وخداع الجمهور بكل فئاته، فمع هيمنة القراءات الدارجة للمشهد التركي كما غيره وما تسببه من تشويش وإزاحات وفقدان للبوصلة في التعرف إلى أطراف هذا المشهد والخيارات المرافقة وبناء أوهام حولها، نحتاج إلى مدخل نظري عام مقابل التعميمات والانطباعات والأيديولوجيات المجردة من أي بعد اجتماعي، والتي تتحكم في غالبية المقاربات السياسية للأحداث من حولنا، وضمنها الانتخابات التركية.

يحضرنا هنا الجهد النظري الكبير للمفكر المغربي، عبد الله العروي، حين عدّ المدخل التاريخي-الاجتماعي ضرورياً لمقاربة أي ظاهرة سياسية أو اجتماعية، وهو المدخل الذي يتجاوز الانطباعات العامة ويربط القراءات المختلفة بما فيها القراءات الأيديولوجية بالشروط الموضوعية.

إلى ذلك، وابتداء من تشخيص القوى والرموز السياسية التي تنافست في الانتخابات التركية الأخيرة، فهي جميعاً وبينها حزب “الشعب” من جهة وحزب “العدالة والتنمية” من جهة ثانية، تعبيرات مختلفة لبرجوازية واحدة، تعود جذورها إلى التطور الرأسمالي الذي طرأ على تركيا منذ انهيار السلطنة العثمانية.

فعلى تباين الشرائح الاجتماعية – السياسية داخل هذه البرجوازية، فقد ظلت موحدة في مواجهة بقايا النظام الإقطاعي السلطاني، وقادت العقود الأولى للجمهورية بقيادة حزب “الشعب” وقائده التاريخي مصطفى كمال أتاتورك، وذلك قبل انفراط عقد هذه البرجوازية وحزبها وانقسامها إلى أكثر من كتلة:

– الكتلة الأتاتوركية العلمانية التي حافظت على الاسم السابق للحزب واتخذت لنفسها سياسات أقرب إلى الاشتراكية الدولية، غير الماركسية والشيوعية، أي رأسمالية دولة وخدمات اجتماعية مع ميل إلى النادي الأوروبي من دون الانخراط كثيراً في الأجندة الغربية ضد موسكو، وقد تركزت هذه الكتلة في النخب الليبرالية وفي مدن مثل أنقره وأزمير وإسطنبول.

– كتلة راحت تقدم نفسها كمزيج من الأتاتوركية ومن التقاليد الإسلامية والرواسب الإقطاعية الاجتماعية، وتركزت أكثر في الأناضول والأرياف، ومن هذه الكتلة انبثق الحزب “الديمقراطي” بقيادة عدنان مندريس، وهو الحزب الذي حكم تركيا عقداً كاملاً في خمسينيات القرن الماضي تحت خليط من الأمركة والصهينة والأسلمة الأطلسية، فقد اعترف بالكيان الصهيوني وفتح تركيا أمام القواعد الأميركية ونفوذ البنك الدولي، ورتّب حلف بغداد – أنقره، الذراع العسكرية الجنوبية للأطلسي، قبل أن يسقط بانقلاب عسكري قاد مندريس نفسه إلى حبل المشنقة.

– كتلة اليمين البرجوازي المقرب من الأميركيين والذي قدم نفسه عبر أكثر من تجربة حزبية، ضمت في صفوفها أوساطاً واسعة من الحزب “الديمقراطي” المنهار.

– إلى جانب هذه الكتل الكبيرة عرفت تركيا قوى أخرى، أبرزها الجيش الذي صار أكبر المعبرين عن الدولة العميقة وخطابها الأتاتوركي العلماني، ولعب دوراً يشبه دور الجيش الباكستاني بالاستيلاء على السلطة بين الحين والحين، وبالتقاطع في كل مرة مع استحقاقات أميركية إقليمية.

–  بالتوازي مع القوى السابقة، عرفت تركيا تيارات قومية عنصرية مثل الحركة القومية (الذئاب الرمادية)، كما عرفت تجارب يسارية راديكالية اجتاحت الجامعات، وكان بينها قوى مسلحة انخرطت مع المقاومة الفلسطينية.

ومن أبرز الجماعات المسلحة التي قدمت نفسها كجماعة يسارية، حزب العمال الكردستاني وقائده التاريخي عبد الله أوجلان (آبو) الذي اختطفته المخابرات التركية من دولة أفريقية بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية والأميركية، قبل أن تدخل أجنحة الحزب خارج تركيا وتحديداً في سوريا والعراق وإيران في علاقات مع الأميركيين.

في مرحلة لاحقة، تقاطع عاملان في مصلحة مشتركة اقتضت صناعة أو دعم تيارات إسلامية أطلسية، العامل الأول تفتيش البرجوازية التركية عن خيارات أخرى بعد انسداد النادي الأوروبي أمام مشاركة واسعة لها فيه، والعامل الثاني هو الحاجة الأميركية إلى هذا النمط من الإسلام الأطلسي للتوظيف السياسي في الشرق الأوسط.

بالنسبة إلى العامل الأول فإن البرجوازية التركية التي دعمت أتاتورك وأوهام “الأوربة” وقادت معركة نزع الحجاب، سرعان ما اصطدمت مع هذه الأوهام، وتوجهت نحو أسواق الشرق بغطاء إسلاموي يحوّل تركيا إلى (أم المسلمين) عبر اللعب على ميراث قديم لم يقدم شيئاً لشعوب الشرق طوال قرون عديدة.

وقد تقاطع العامل المذكور مع العامل الثاني، الأميركي، وظهر في أكثر من تجربة في الشرق الأوسط العربي والإسلامي، قادها جنرالات متأسلمون ضد التراث الناصري، مثل السادات في مصر والنميري في السودان وجنرالات الجزائر بعد رحيل بومدين، أما في تركيا فالذي عبّر عن هذه المرحلة، سياسي مدني هو تورغوت أوزال الذي شكل المحطة الأساسية الحاسمة للتيارات الإسلاموية اللاحقة، ولم تكن تجربة أربكان هي المطلوبة، فجرى تهميشها لصالح تجربة أخرى ممثلة بـ”حزب العدالة والتنمية”.

في ضوء هذه المعطيات، دخلت تركيا منذ عقود وصولاً إلى الانتخابات الأخيرة في تجاذبات أعمق وأبعد من تجلياتها الخارجية الرائجة بين حزب “الشعب” وحزب “العدالة والتنمية”، وكان واضحاً أن حزب “العدالة” أفضل انتخابياً من غريمه، ليس لأسباب أيديولوجية، إسلاموية أو علمانية، ولا بين ثقافتين بين الغرب والشرق، الروسي والآسيوي، بل لأن الأسواق الروسية والشرقية التي كانت أكثر انفتاحاً على البرجوازية التركية خدمت حزب “العدالة والتنمية”.

يشار هنا إلى الضخ الانتخابي لصالح حزب “الشعب” في المدن الكبرى، مثل أنقره وأزمير وإسطنبول لم يعكس مصالح طبقية واسعة تجاه أوروبا بقدر ما عكس مقاربات نخبوية ليبرالية.

2. البعد العنصري لأجنحة البرجوازية وآفاقه

رغم أن تركيا لا تزال في محيط الرأسماليات الأوروبية والأميركية، التي دخلت في طور من المناخات الفاشية والعنصرية، وما يعنيه ذلك من آفاق مأزومة قد تتعدى ذلك إلى التداعيات الخطرة للفاشية ومغامراتها العسكرية التدميرية كما جرى في الحرب العالمية الثانية، فإن المناخات العامة التي رافقت الانتخابات الأخيرة في تركيا، تؤشر على سمات مشتركة مع الرأسماليات المأزومة، خاصة في ما يتعلق بالتجاذبات الداخلية للخطابات الفاشية.

فمقابل الخطاب الفاشي ضد اللاجئين السوريين الذي اتكأ عليه حزب “الشعب” وزعيمه، كمال كليجدار أوغلو، ثمة ما يقال حول موقف تمييزي ضد الأتراك من أصل كردي في خطاب حزب “العدالة والتنمية”.

الجديد هنا هو في تحوّل هذه الخطابات إلى بيئة لثقافة كراهية عند الطرفين، سواء في قلب تركيا والأناضول وأريافها، أو في المدن الكبيرة المذكورة حيث تنتشر الثقافة العلمانية.

وقد بات معروفاً ومؤكداً أنه حيث تسود الكراهية والتجاذبات العنصرية والتمييزية، فإن بذور التفسخ تطال الدولة برمّتها، وقد تتحوّل إلى ما يشبه الحرب الأهلية الناعمة، وربما أكثر من ذلك في ضوء التجربة المسلحة لحزب العمال الكردستاني، وردود الفعل العنيفة من الدولة، كما في ضوء إغراق المناطق الحدودية بعشرات الجماعات التكفيرية المسلحة، ولم يحدث قط أن دولة لعبت بالنار على حدودها من دون أن تقترب هذه النار من ثيابها وتتوسع أكثر فأكثر مع اتساع التوتر الاجتماعي الداخلي.

بالتأكيد، لا نتمنى لتركيا مثل هذا السيناريو أياً كانت ملاحظاتنا على هذا الطرف أو ذاك، ولكن هذه التمنيات لا تحجب نيراناً في غابة من الحطب.

3. انتخابات إسطنبول.. تحوّل ذو مغزى

من التحوّلات الهامة في المجتمع التركي ما شهدته أكبر مدنها وعاصمة تركيا السلطانية، إسطنبول، وذلك حين صوّتت مرتين للعلمانيين، الأولى في الانتخابات البلدية والثانية في الانتخابات الرئاسية، وتكمن دلالة هذا التحوّل في أن إسطنبول وقبل أن تحمل إردوغان إلى رئاسة الجمهورية من رئاسة البلدية، ظلت عاصمة للسلطنة العثمانية قروناً طويلة.

وثمة مفارقة نتعرف إليها من خلال مؤرخ المدن الألماني فيليب مانسيل وكتابه “تاريخ القسطنطينية”، الاسم الأصلي لهذه المدينة التي عرفت سابقاً بـ بيزنطة ثم القسطنطينية ثم إسطنبول، إذ يذكر هذا المؤرخ أن دخول الأتراك 1453 لهذه المدينة تزامن مع صفقة سبقت ذلك مع المدن الإيطالية الصاعدة آنذاك، التي أقامت علاقات وثيقة مع الحكم العثماني الجديد مقابل منحها تسهيلات تجارية على طريق الحرير الصيني، الذي كان يربط آسيا بأوروبا.

يشار هنا إلى أن المدن الإيطالية كانت ضمن التعبئة الكاثوليكية ضد القسطنطينية الأرثوذكسية، ولذلك لم تتردد في دعم الأتراك حين حاصروها وأسقطوها باتفاق تضمن الحفاظ على التركيبة الديموغرافية السابقة للمدينة بحيث تبقى ذات طابع مسيحي إلى جانب الجاليات اليهودية الكبيرة، وقد ظلت إسطنبول فعلاً كذلك حتى الحرب العالمية الأولى كما يقول مانسيل.

الغريب أن تحوّل إسطنبول إلى أغلبية إسلامية، جرى في العهد العلماني لأتاتورك وليس في العهد السلطاني، وقد يعود ذلك إلى تبادل السكان الذي رافق الحرب التركية-اليونانية، كما إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة، علما بأن الموجات اليهودية إلى تركيا خلال السلطنة كانت من مصدرين:

– خارجي، يهود الأندلس الذين تسيدوا الإدارة المالية في البلاط العثماني، كما كانوا في البلاط الأندلسي، وصولاً إلى دورهم في تأسيس البنك العثماني.

– داخلي، من مناطق كانت تحت سيطرة العنصر التركي في الخزر، الذين تهود ملكهم في أواخر القرن السابع الميلادي وبنى إمبراطورية تجارية حول بحر قزوين (الخزر)، قبل أن تدمر هذه المملكة على يد المغول وأمراء روسيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى