كتب مفيد سرحال | أميركا الطموح الامبراطوري وضمور الدور.
مادة بحثية قّدّمت في مؤتمر المستشارية الإيرانية ملامح النظام العالمي الجديد
مفيد سرحال | مدير تحرير موقع المراقب – باحث في الشؤون السياسية
ما أكثر شهادات البوح تصريحا وتلميحا من قادة الولايات المتحدة الاميركية الذي يدفع لالتقاط المعايير المركزية الدفينة في الوعي الغربي ومثله الحي اميركا والتي تقوم على العنصرية والعرقية والبطش والرغبة في حكم أحادي للعالم أسه الهيمنة والسيطرة والتعامل غير الحميد وغير المشرف مع شعوب كثيرة على هذه الأرض ما زالت تدفع بمعان سلبية كثيرة ومؤلمة الى الواقع الراهن.
وفي تصوري ان شهادة الرئيس الاميركي جورج بوش أمام الكونغرس الاميركي عام ١٩٩٢ تشكل فاصلة ذات مدلول صاخب في التأشير على نزعة السيطرة الأحادية في قيادة العالم دون منازع.:((لقد ربحنا الحرب بعد سقوط الامبريالية الشيوعية وأن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الاميركية وانماط العيش والسلوك الاميركي كما كان هذا القرن اميركيا.))..
لقد استؤصل الهنود الحمر في اميركا واوستراليا وسيق الأفارقة كالبهائم لبناء القارة الجديدة وحديثا الانتقال الى روما الجديدة التي يحكمها ((الأخيار )) ومن هم خارج أسوارها اشرار واحتلالهم ضروري لتأديبهم وتحديثهم وغني عن البيان الجرائم في افغانستان والعراق والصومال وتغطية مجازر اليهود بحق الفلسطينيين واشعال الثورات الملونة الملوثة بالدم كلها آثام أميركية يندى لها جبين الانسانية.
ان النزعة الامبراطورية في اميركا ترقى الى زمن الرئيس ترومان الى نقل الولايات المتحدة الاميركية من حال الجمهورية الى حال الامبراطورية باتخاذه قرارا خطيرا بقصف هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية اضافة لسياسات اميركا في النصف الثاني من القرن العشرين التي تحفل بارهاصات هذا الطموح الامبراطوري والعولمة الاحادية لحكم العالم بدليل سلسلة الانقلابات والقلاقل التي قادتها على مدى الخمسين سنة الماضية.
ولعلها فكرة موحية ومتسقة تماما مع منطق السيطرة والنهب بدءا من الاستعمار واستقرارا في العولمة ولعل هذه الفكرة شديدة الجذب وعالية الحساسية تؤكد استنساخ اليونان القديمة وفتوحات الاسكندر وعسكرية اسبارطا وامبراطورية روما.
هذا النظام العالمي الاميركي المعولم بكل ما فيه من أحمال وقيم وصيغ مستجدة ومستبدة انه النشوء المفاجئ والتفجر المذهل الذي أخذ ولما يزل على عاتقه التعبير عن حالة انبعاثية لكل ما هو مستقر منذ التاريخ البعيد في الذاكرة الاستعمارية المتجددة بما هي نظام عالمي اقتصادي سياسي فكري وعسكري يفرض تفاعلاته بقوة حيث ليس بمقدور أحد ان ينغلق عليها ويتغاضى هنا او يتصور انها بعيدة عنه.وليس من حق أحد بالمقابل ان يرى انه صاحب القرار في الانضواء في كنف الامبراطورية بطريقة الارتهان الشامل والتبعية الكاملة.
وسلفا نستذكر هذه النقطة التي قدمها نعوم تشومسكي في كتابه (النظم العالمية القديمة والجديدة) حيث يقول :ان تبرير مشروعية الهيمنة وصل الى حد نسبتها الى منطلقات ميتافيزيقية من دوافع التاريخ والقدر لتحمل المسؤولية وانجاز مهماتها تحقيقا لاهدافها السامية العلوية ويقر تشومسكي بتوجه السيطرة الاميركية على العالم فالولايات المتحدة الاميركية حشدت آلتها العسكرية واعتمدت تيارا فكريا لتبرير دعاواها في السيطرة وحقها في فرض سلطانها على الشعوب.
ان التدخل العسكري الاميركي في العالم يسوق على انه حالة استدعاء ضروري ويدخل في باب ضبط منافذ الخطر والدفاع عن الحريات والكيانات وردع المعتدي ومعروف ان هذا الامر ظاهرة جديدة ترتبط بالفكرة الأحادية وباعادة ترتيب الوضع الدولي وفقا للمصلحة السياسية الاميركية.
السؤال الملحاح الذي يطرح نفسه الآن هل مازالت اميركا على صورتها بكل جموحها العسكري المستند الى القوة المنفلتة من كل قيد قانوني في حل المسائل الدولية وطموحها الامبراطوري الذي يسوغ نظرة استبدادية احتلالية للدول والشعوب التي تعتبرها عاصية ونزعتها الأحادية لحكم العالم في كنف نظام عالمي موشوم بالبصمة الاميركية على مبدأ ان الحروب هي التي تؤسس لحياة مثلى في موقف يستبطن تقزيم وتجاوز الوزن المعنوي لاوروبا التي مازالت ترى ان مصالح الشعوب تتلاقى وتتقدم بالعقلانية وبقوة الدبلوماسية المنطلقة من شرعة المؤسسات الدولية وضوابطها ؟؟
الجواب ان طوافا سريعا على المشهد العالمي بدءا من الشرق الاوسط الذي نصح بريجنسكي المستشار السابق للامن القومي الاميركي في كتابه رقعة الشطرنج بأن يتم ملء المنطقة بالأميركيين وتحويل الشرق الاوسط بكامله الى منطقة عسكرية اميركية .
فإن انزياحا متدحرجا للحضور الأميركي عن هذا الموقع الجيوستراتيجي تبدى في الخروج من افغانستان وصمود ايران بوجه القوة الاميركية العاتية والتفاوض الندي المقتدر مع الادارة الاميركية المتوحشة في طغيانها والذي اعطى درسا في الثقة بالنفس و مراكمة القوة وتوظيف العلم واستثمار العقول والموارد البشرية وارساء معالم نهضة ايرانية نموذجية في ابعادها وامكانياتها وذلك بين ظهراني حصار غاشم ظالم وتآمر مستدام لتصديع الوحدة المجتمعية والكيانية ، ورسوخ ايران رغم ذلك في المنطقة كحالة استثنائية قادرة على لعب دور حيوي محوري في تعديل موازين القوى لصالح المحور المناوئ لاميركا واعوانها.
أليس التحول الهائل في قدرات المقاومة في لبنان وأدائها الردعي للكيان الصهيوني الزائل وتركه أسير قلق وجودي تحول كابوسا راعبا بالتكامل مع الجهد المقاوم المبدع في تطوير أدوات الصراع داخل فلسطين والذي ضاعف من الهم الصهيوني المصيري ،اشارة ضوئية مكثفة على قلق اميركي صادم من تدني وظيفة القلعة الصهيونية المتصدعة المهددة بالانهيارجراء هجرة يهودية معاكسة عبثا خاولت اميركا رفدها بعوامل الثبات .
أليس صمود سوريا وجيشها وقيادتها بوجه اعتى هجمة شهدها العصر الحديث لتقويض دورها في الاقليم وتشتيت قدراتها وتغييرها من علامات التراجع الاميركية ناهيك عن التمدد الروسي الاستراتيجي الى المياه الدافئة وتشكيله مع ايران ومحور المقاومة عنصر صد للخطط الاميركية وابرزها تغيير مفاهيم الشعوب العربية باتجاه أمركتها والغاء الهويات الحضارية بتدمير التاريخ وافراغه من مخزونه الحضاري ومضمونه الثقافي الانساني المميز.
في المقلب الآخر من العالم لطالما كانت تتوجس اميركا من انضمام روسيا الى المجموعة الاوروبية كونها دولة نووية وقوتها العسكرية تمنح ثقلا استراتيجيا لاوروبا بما يعيد العالم بطريقة او بأخرى الى صيغة ما قبل انهيار جدار برلين والعودة الى منطق الحرب الباردة لذلك جهدت لعزل روسيا عن اوروبا وما الحرب الروسية الاوكرانية في أحد وجوهها سوى امعان اميركي في أشغال روسيا بنزاع مستدام في فضائها القومي وأغراق اوروبا في هذا المستنقع فيتحقق بذلك هدفان استراتيجيان الاول انهاك روسيا والحيلولة دون صعودها على المسرح الدولي مجددا من خلال معانقتها للتنين الصيني ، وتفكيك الوحدة الاوروبية كمشروع كان ولا يزال لا ينسجم مع الاهداف الاميركية وبالتالي الحرب في اوكرانيا باعتقادي في بعض ابعاده موجه ضد اوروبا لان عالما ديمقراطيا متعدد القطبية يتناقض مع المسار الامبراطوري الاستبدادي الذي ترسمه اميركا لنفسها .
إن أي قراءة منهجية لأحداث العالم حيث تغوص اميركا في بؤرها يشي بتقلص محتوم لنفوذ اميركا مشفوعا بارتدادات عميقة بنيوية على اقتصادها ومؤسساتها واستقرارها الامني ورفاهية شعبها دون التقليل من طغيانها وسطوتها وسيطرتها على مصادر الطاقة وقدراتها العسكرية الماحقة التي بالتأكيد لن تفيد بشيء في حمأة الجنون والافناء والفناء الذاتي.