كتب محمود برّي | علق طبّي…
محمود برّي | كاتب وباحث لبناني
أكثر ما يُرعبني هو هذه الغربة المُطبقة بين ناس البلد وطغمته الحاكمة. بذلت جهداً لاختيار كلمة مختلفة، فلم أُوفّق. الطُّغمة هي التعبير الذي استنسبته. أمّا الرعب فليس من اختراعي بل “حصيله ما أراه يومياً على الأرض. وهو رعبٌ يرى إلى ما سوف تتسبب به هذه الغربة ذات غد،،، ليس ببعيد.
المسافة بين ناس البلد والمتحكّم بهم باتت تُقدّر بالمقياس الضوئي، بمعنى أنها مسافة هائلة لا يُمكن للبشر عموماً تقديرها… مثل المسافة بين االدجاجة مثلاً، وزوجة سقراط ؛ وليعذرني القارئ…
يمكنني القول ببساطة أن الناس في وادٍ والّذين فوق في وادٍ آخر. لكنه توصيف اعتيادي في بلد يعيش (يعيش؟!) ظروفاً فوق (أو تحت) إعتيادية. هذا يُذكّرني بما قاله الكاتب الأميركي “جون غراي” في توصيفه للعلاقة (اضطرابها) بين الرجل والمرأة إذ نشر كتاباً له بعنوان كافٍ للتعبير عن المقصد: “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”. والمعنى أن “عدم الفهم المشترك” هو الأمر الطبيعي بينهما، بينما الغريب هو العكس.
أرى من جانبي أن “الغربة” بين المتحكم والمحكوم في لبنان، أعمق وأبشع وأكثر إثارة للخوف من معضلة “عدم التوافق” بين امرأة ورجل. المتحكمون هنا يوزعون أحاديثهم التي لا تعني ولا تُحاكي البتّة هموم الناس وما يعنيهم. هؤلاء يبدون كـ “الغلابى” في لهجة الشارع المصري، يستجدون الخبز والدواء والإنترنت ومشتقات النفط وأموالهم التي نُهبت في المصارف، وما تبقّى منها مما يُنهب يومياً (إذا توفر) في الدكاكين وعلى “بسطات” البيع… أما أولئك، الذين في سدّة الفعل والسلطان والمسؤولية، فيتحدثون عن شؤون أبعد عن الناس من القمر… عن الإنتخابات والتحالفات والكُتَل والمشاريع وجلسات البرلمان والحكومة واحياناً عن الكورونا وكثيراً عن مناصرة أو مهاجمة أنظمة الخليج وأمريكا والحوثيين والصواريخ والطائرات الآلية وصولاً إلى مسلمي ميانمار. المهم أن “يفشخوا” ترفُّعاً (قرفاً) فوق هموم الناس اليومية الضاغطة.
ليس في خطابات ولا تصريحات ولا بيانات الذين فوق، أي كلمة عن “الصغائر” التي يترفّعون عن ذكرها مثل “كيلو البطاطا” – إنتو أجلّ أدر- أو بورصات مافيات المولدات والفرّانين واللحامين والشوفريي… فهذا كله تحت مستوى نظرهم وخارج حقول اهتماماتهم المنصرفة بكًلّيتها إلى ما يحبون تسميته “الشأن العام” بما يحتوي عليه من الصور الذهنيّة لكل ما لا يفهمه “العوام” ولا يشغل بالهم ولا يدركه الأتباع ولا يعنيهم. هؤلاء (العوام والأتباع) بالتحديد ليسوا ناساً ولا بشراً عند أصحاب السلطان، بل “جماهير” مُكرّسة لمهام أخرى، من وزن التباهي بالأسلحة “المحمية” وأجهزة الاتصال الميليشياوية و… “خلع نيع” كل من يتطاول.
“كلّن يعني كلّن” ليست تهمة ولا تُصيب الجميع. هي أولاً وصف لكل المنضوين في خندق النهب والنشل والسرقة وكل ما يقع تحت هذه العناوين. وهي لا تصيب الجميع بمعنى أنني، مثلاً، غير معني…ومثلي كُثر، أولهم ميشال عون، الشخص وليس التنظيم. ستقول إنه دخل السوق فباع واشترى، وأجيب أنه دخلها ولم يُتاجر. يقولون إنه اكتسب سمعة سيئة، وهذا صحيح وطبيعي… ويحصل مثله مع أي شريفة عفيفة تضطر إلى السكن في بناية للمومسات.
لماذا هو صامت إذن واشبه ما يكون في حالة غيبوبة؟
هذا ليس مجرّد سؤال بل هو تُهمة… الرجل ليس صامتاً، ولم يصمت يوماً. لكن “صوته مش عم يودّي”. فهو عاجز أمام قوى قاهرة. أعجزه النظام القائم و”دولة المارقين العميقة”…العميقة جداً.
ربما كان يرى إلى البعيد…فتحالف مع أحد الأقوى على الساحة. ومتأخراً تبيّن له أن حليفه ممتلئٌ بحليفه. وقف وحيداً أمام الطغمة التي فرضت أجندتها. جميع الذين تنافخوا من حوله وأنهم معه وإلى جانبه، استنكفوا عن (وفي أحسن الأحوال عجزوا) عن بناء حالة وعي عام. ثم جاء من يلوّح أمامه بإحياء مناخات الحرب، فاضطر إلى التأوّه… من الغيظ وليس من الألم. تفوّقت “الدولة المتواصلة ” على الدولة الجديدة التي لم يُقمها العهد. هزمته الإنهيارات وأسقطه انعدام المحاسبة (ولو كان عذره العجز عن المحاسبة). كان عليه أن يضرب على الطاولة في لحظة ما، وأمامه طاولة متهاوية…مُخلّعة، ربما كانت لتسقط تحت قبضته… وهذا كان أفضل من بقائها… لم يفعل، فسقط وسقطت الطاولة في أيدي الذين يحكمون من تحت الطاولة. فاز النهّابون، سقط البلد، لم يسأل أحد عن سقوط الناس. فقد المواطن الثقة، فسقط كل البناء حتى من دون أن تُخاض معركة… لم يعد المواطن يطمح ولا يحلم ولا حتى يتحدّث عن إقامة دولة عادلة ونظيفة وعن تغيير وإصلاح. صار جلّ طموحه الحصول على أبسط متطلّبات العيش الكفاف.
رآهم تارة “يعرضون القتلة” على قاضِ في مكتبه، وطوراً يتهجمون على مُدّعٍ عام على رؤوس الأشهاد، ولا يتوافر دركي… مجرّد دركي “راضعٌ من حليب أمه” للدفاع عن… مشاعر الناس على الأقل. وقبل أن يحول الحَول تابع المهتمون ذلك الرسمي “الأزعر” يتهادى على الشاشة ذاتها التي تنطق بلسان ضحيته. تأكد الجميع أن انعدام المحاسبة هو القانون المعمول به… فتقوّض الباقي من الثقة وتبدد ما كان متبقّياً من الأمل وبات المواطن “المستور- المُروَّض” مستعداً لقبول وتفهّم أيّ شيء وكل شيء. سارت مصاطب الإعلام جميعها على مسارات مناهضة لمصلحة البلد والناس، منها ما تم شراء ولائه بالمال، ومنها ما لم تكن أساساً مصلحة البلاد في صلب اهتمامه، ومنها ما كان يعيش حالة تخلّف إعلامي عميقة….وهنا فقد ميشال عون سنده الأساسي، الناس، وصار التيار…”تيّاره” سابقاً، ثقّالة.
الساحة تعج بلاعبين اقوياء منظمين يتحلّقون حول عهد جريح… على فراش اليأس. مافيات. أوليغارشيات. أحزاب. شعوب. والكثير الكثير من السلاح والميول الإجرامية.
اللبنانيون هم الغائب الوحيد في بلد أكثر من نصف ساكنيه… غرباء… “علق طبي” يمصّ ما تبقّى في الجسم من دم. والأنكى: لا تكونوا عُنصريين.