محمود بري | كاتب وباحث لبناني
تثور تساؤلات كثيرة وضاغطة هذه الأيام حول احتمال الانسحاب الأميركي، ولو الجزئي، من التزامات واشنطن العسكرية (المبالغ فيها أحياناً) في منطقة الشرق الأوسط، على وقع الحرب الدائرة في أوكرينيا والعديد من المستجدات الأخرى المتصلة بالوضع الأميركي العام. أول هذه التساؤلات ينطلق من مدى حاجة وضرورة وأهمية نفط الخليج بالنسبة للولايات المتحدة، ومستوى اهتمام واشنطن بالمحافظة عليه بالحفاظ على سيطرتها في المنطقة من خلال جملة من الإجراءات في طليعتها التواجد العسكري. ومن الأولويات الأميركية حماية للكيان الإسرائيلي، أهم وأبرز قاعدة لنفوذها في المنطقة، فضلاً عن مخاوفها المشتركة مع هذا الكيان مما تدرجانه تحت عنوان “الملف النووي الإيراني”، بما يشمل تنامي القوة الإيرانية في العالم وفي المنطقة تحديداً، وما أسمياه طالملف النووي”. يُضاف إلى ذلك حساسية الوضع المالي والاقتصادي المستجد للولايات المتحدة في ظل جائحة كورونا أولاً، يُضاف إليه ما جاءت به الحرب في أوروبا من أزمات على مستويات الطاقة والغذاء والاقتصاد عموماً في العالم وفي الولايات المتحدة ذاتها، وذلك الارتفاع الفلكي وغير المسبوق لأرقام الدين الأميركي العام، هذا بالإضافة إلى ما استجد بفعل به الحرب في أوكرينيا والموقف الصيني الرمادي منها الذي لا يمكن لواشنطن الوثوق فيه، من دون تجاهل التربص الروسي- الصيني التقليدي بالنفوذ الأميركي، والرغبة التلقائية في سدّ اي فراغ يحدث في المنطقة. ومن نافل القول إن واشنطن تعلم علم اليقين أن حربها الكبرى، إذا ما وقعت، لن تكون ضد روسيا ولا بالطبع دفاعاً عن أوكرينيا ولا عن أوروبا، بل ستكون في مواجهة الصين، ندّها الحقيقي وكابوسها الاقتصادي المتفاقم. ارتفعت وتيرة هذا النمط من التساؤلات منذ إعلان الرئيس الأميركي “جوزف بايدن” توجه واشنطن لسحب قواتها المسلحة من أفغانستان (في نيسان/أبريل 2001)، وهو الانسحاب الذي بوشر عملياً بتلك الطريقة المُذلّة على الشاشات في في آخر يوم من آب/أغسطس 2021، بعد أكثر من عقدين على “إقامة عسكرية غير مُجدية”. بعد ذلك جاءت الحرب الأوكرينية لتزيد من حماوة التساؤلات، وربما من ضرورتها أيضاً. هذا بصرف النظر عن أن تصوّر الشرق الأوسط من دون الولايات المتحدة الأميركية وأصابعها هو أمر غريب أساساً، بالنظر إلى أهمية ووزن هذا التواجد ومدّته الطويلة، وتداخل الأصابع الأميركية في جميع الخيوط التي يتشكّل منها نسيج هذه المنطقة بكل ما فيها من دول وجماعات وسياسات وثروات ,أجندات وأطماع وطموحات. في ما يتعلق بنفط الخليج، غالباً ما يغلب الاعتقاد أنه يأتي في درجة متقدّمة على سلّم الأولويات الأميركية في المنطقة، ما يضطرها للبقاء فيها، ومعها وربما قبلها، الكيان الإسرائيلي وحمايته. وهذا ينبغي أن يدفع واشنطن إلى سحب مسألة الخروج من المنطقة، من أجندتها، سواء من اجل أن تضمن هيمنتها على هذه الثروة الاستراتيجية بالنسبة لها، أو في سبيل مواصلة بذل الحماية الكافية لقاعدتها الأساسية في المنطقة المتمثلة بالكيان الإسرائيلي. إلا أن هذا الاعتقاد ليس ثابتاً ويحتاج إلى شيء من التمحيص لتشخيص ماهية وحقيقة المصالح التى تجعل من هذا الوجود العسكرى ضرورة أميركية لهذا السبب، وبذلها الحرص الكبير المفترض من أجل المحافظة عليه. فما هو بالواقع العملي مدى حيوية وأهمية نفط الخليج لتحقيق وضمان أمن الطاقة فى الولايات المتحدة؟ لعل مواجهة هذه التساؤلات تتطلّب النظر في الأمر على مستويين: مستوى الحاجة الأميركية الفعلية والإلزامية إلى هذه الطاقة، ومدى حاجة الكيان الإسرائيلي للوجود العسكري الأميركي المباشر والقريب لضمان أمنه، في ظل التنامي الواضح للقوة الإيرانية وأذرعها. على مستوى الحاجة الأميركية الفعلية للطاقة من الخليج، تنبغي الإشارة أساساً إلى ما أنجزته الولايات المتحدة بفعل ما بات معروفاً بـ “ثورة” النفط الصخري. فهذا الفتح البارز أحدث فارقاً اساسياً في ميدان توفر الطاقة، فحقق بدايةً كسر احتكار دول أوبك تحديد أسعار وكميات النفط المتاحة في الأسواق العالمية، وأتاح للولايات المتحدة أن تتقدم في مجال الإنتاج على كلٍ من العربية السعودية وروسيا، وتصبح أكبر منتج للنفط في العالم. وبهذا انخفضت أسعار النفط لتصل إلى نصف مستواها خلال العقد الماضي.. لكنه من الخطأ الاعتماد على هذا المُعطى للاستنتاج بأن كميات مواد الطاقة القادمة من الشرق الأوسط، ليست أو لم تعد مسألة حياة أو موت بالنسبة للأميركيين، كما كانت غالباً في السابق وقبل مباشرة عهد النفط الصخري. فالحرب الأوكرينية عطّشت الأسواق العالمية، ومعها الأميركية، للطاقة. ثم إن الولايات المتحدة ما تزال، وعلى الرغم من كل ما تستخلصه من النفط الصخري، ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم. وهذا يشير إلى تضخم حاجتها وازديادها، وبالتالي فليس صحيحاً القول إنها باتت بغنى تام عن بترول الشرق الأوسط، وأنه بات بإمكانها التخلّي عنه. المعنى أن واشنطن ليست ولا يمكن أن تكون في وارد الانسحاب من المنطقة نتيجة لهذا السبب. هنا يأتي سبب آخر مفترض ربما يضطر واشنطن إلى المحافظة على تواجدها العسكري في المنطقة، وهو الحفاظ على سلامة الكيان الإسرائيلي وتأمين الحماية المناسبة لوجوده ضمن محيطه المعادي. يمكن القول في هذا الصدد إن الكيان تمكن على مدار عقود سبقت من بناء قوة عسكرية وخبرات ميدانية لا يُستهان بها، كما نجح بمساعدة واشنطن في بناء آلة عسكرية متقدّمة وفعالة (الجيش الذي لا يُقهر) يستطيع من خلالها مواجهة مخاطر الحروب التي ينوي شنّها، من دون الحاجة اللازمة لدعم أميركي مباشر. هذا هو الشائع وما يجري تسويقه. إلا أن هذه الصورة التي ربما كانت قائمة منذ عقود، اهتزت وضمرت اليوم وبات الحديث عنها مُدعاة للسخرية، في ظلّ ما تعرّض له الكيان العام 2006 في حربه ضد المقاومة الإسلامية في لبنان، والهزيمة الموصوفة التي تعرّض لها في تلك المواجهة، فضلاً عما لاقاه بعد ذلك مع المقاومة الفلسطينية في غزة. والمعنى هنا أيضاً ان التواجد العسكري لحماية الكيان هو ضرورة أميركية ــ إسرائيلية من شأنها أن تدفع واشنطن إلى الإبقاء على قواها العسكرية في الشرق الأوسط. ثم هناك إيران، “بُعبع” الكيان وصُداع الولايات المتحدة… مع ما تشكله من خطر قائم على اطماع الكيان المحتل ونواياه العدوانية في المنطقة، بالنظر إلى قوتها العسكرية الفاعلة والمؤثرة وكفاءة أذرعتها في المنطقة، فضلاً عن التقدم الباهر الذي حققته في ميدان العلوم النووية تحديداً، وصولاً إلى ملفّها النووي الذي ما انفك يشغل واشنطن ومعظم الغرب بذريعة اتهامها بالنية في تحقيق التسليح النووي، على الرغم من النفي الإيراني المُطلق والمتواصل لأي نوايا من هذا القبيل. وهذا الوضع من شانه أيضاً استبقاء واشنطن لتواجدها العسكري في المنطقة. ماذا عن الوضع المالي للولايات المتحدة، وهل صحيحٌ أن هذا الوضع، والذي نادراً من يطفو الحديث عنه على السطح، جديرٌ بأن يشكّل نوعاً من الدافع لتخفيف التواجد العسكري المكلف في منطقة الشرق الأوسط، لتحقيق شيء من الوفر ربما باتت الخزينة الأميركية أحوج إليه…؟ في هذا الصدد تتوجب الإشارة إلى حقيقة لا مراء فيها تتصل بجائحة كورونا، والتي لم تمر بسلام على اقتصاد الداخل الأميركي. فقد اضطرت السلطات إلى بذل مبالغ هائلة على جبهات التصدي للمرض ومعالجة ملايين المصابين وإسعاف المواطن الأميركي في جميع أنحاء البلاد بما يكفيه شرّ العوز، أو حتى الخروج من منزله وإمكانية التعرّض للإصابة… وبعد الكورونا جاءت الأزمة الغذائية والنفطية والاقتصادية التي اجتاحت العالم والولايات المتحدة بالطبع، بفعل حرب أوكرينيا،وما رافقها من تضخّم وكساد عام حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها… ما تسبب بارتفاع رقم الدين الأميركي إلى حدود غير مسبوقة (حوالى 27 تريليون دولار). ربما أمكن القول إن هذا الرقم، على الرغم من ضخامته، لا يشكّل خطراً على اقتصاد بحجم وبظروف الاقتصاد الأميركي، في حين أنه بالنسبة للأموال التي يجري إنفاقها على تواجد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، فإنها، وإن كانت أموالاً طائلة، إلا أنه ليس من المتعسّر على الاقتصاد الأميركي تعويضها بطرق لا تخطر على بال. وما ناله الرئيس الأميركي السابق من العرش السعودي أمام كاميرات الإعلام، يُعطي فكرة عمّا يمكن أن يكون. والمعنى أن السبب المالي ليس كافياً لكي يدفع واشنطن إلى التفكير جدّياً بالانسحاب من الشرق الأوسط. وطالما أن واشنطن وضعت بشكل مُسبق، حدوداً مأمونة للدور الذي تؤديه بصدد الحرب الدائرة في أوكرينيا، فقصرته على المال والعتاد والكلام… فهذا لا يشكل كلفة عالية من شأنها هزّ الاقتصاد الأميركي. ثم إنه لا ينبغي تجاهل أن كلاً من روسيا والصين هما باستمرار “على أتم الاستعداد” لسدّ أي فراغ أميركي في الشرق الأوسط.، وبالتالي فأي انسحاب عسكري أميركي من المنطقةن سيجد على الفور من يسّده من ذوي العيون الموروبة ومن أصحاب الوجوه البيضاء الناصعة. ثم إن روسيا متواجدة أساساً ولها قواعدها الثابتة (في سوريا)، كما أن للصين مقدرة معروفة على استجلاب دول المنطقة بأدواتها المالية والتجارية، وعبر فوائضها النقدية، وهي أثبتت قدرتها الفائقة على ذلك وسط جائحة كورونا، واظهرت موهبة نادرة في إقامة التواصل مع دول المنطقة وشعوبها، ودعمهم ماليا وطبيا، من دون إثارة أي حساسيات. هذا بالإضافة إلى أن واشنطن والجميع لا يغيب عن بالهم أنه، في حال الانسحاب، لن تكون العودة متيسرة بسهولة حين تستدعي الحاجة.