كتب محمود بري | هل تدخل بكين لعبة “الروليت الروسية”؟

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

الحرب دائرة في أوكرينيا، لكن العين مركّزة على ما يجري وما يمكن أن يستجد بين موسكو وبكين. فهنا مربط الفرس. وبالنظر إلى الإصرار الأميركي (الغربي) على تعميق الهوة تحت أقدام بوتين وجيشه، تصبح الصين هي القوة المُرجِّحة، إما لغرق بوتين (أو على الأقل لخروجه من المولد بلا حمّص)،إما لإعادة تعويمه (على ساقٍ عرجاء)، بخاصة وأن حرب موسكو في الشرق الأوروبي حملت للروس من المفاجآت ما لم يكن داخلاً في الحسابات، ولا سيما على مستوى تواصلها واستمرارها وتعسّر حسمها خلال مدة وجيزة ومعقولة، وهو ما يضع روسيا في موقف محرج قد تحتاج معه إلى الاستعانة بـ”صديقتها” الصين. لذا فالسلوك الذي سوف تعتمده الصين في هذه الدوّامة العنفية المتصاعدة ستكون عملية اختبار لماهية الدور الذي تتوخى الزعامة الصينية أن تؤديه في العالم. فهي قوة كبرى أساسية ومنافس جدّي ومُهاب للأحادية القطبية الأميركية. ولبكين تحفظات على هذه الأحادية مثل ما لموسكو إن لم يكن أكثر. وما يُقرّبها من الروس على المستوى السياسي، على كثرته، لا يقل عمّا يبعدها عن واشنطن. وإذا كانت مصالحها الاقتصادية الكبيرة وبالغة الأهمية مع الولايات المتحدة ومع الغرب عموماً، تغلّ يدها وتُقيّد حريتها تجاه موسكو، إلا أن فشل بوتين في تحقيق أهدافه داخل أوكرينيا، ستكون أصداؤه عظيمة الأذية داخل بكين ذاتها، وهي التي تجد في نجاح “العملية الروسية الخاصة” تحقيقاً للعديد من مصالحها الاستراتيجية الكبرى، سواء على مستوى كسر شوكةالتفرّد الأحادي الأميركي على قمة العالم، أو على مستوى التوق الصيني الذي لا يهدأ لاستعادة تايوان… الجزء الذي ما انفكت تعلن صينيته التامة. وهنا تحتاج الصين إلى كل حكمة الأجداد ومختلف سُبُلهم طويلة البال في بلوغ أهدافهم بالصبر والأناة والسير بين النقاط.  وهذا على كل حال ما اعتادت بكين ممارسته منذ عقود. فهي تعمل غالباً على التقرّب بحيادية تُعلنها من مختلف الفرقاء المتنافرين في ما بينهم على الساحة العالمية، وتستقلّ مركبة الحكمة والمسالمة كي تنجح في تمرير مصالحها بهدوء ومن دون ضوضاء. وهذا ما يعرفه الغرب ويتقبله ويتعايش معه. هكذا فإن كيفية إدارة بكين علاقتها مع كلٍ من موسكو وواشنطن في آن معاً، ضمن خضم الحرب في أوكرينيا، سوف يرسم الأسس العملية لتموضع الصين خلال السنوات المقبلة. وإذا كانت مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وحتى معاداتها، هي أحد أبرز مكوّنات “خلطة الصداقة” الصينية الروسية، إلا أن مصالح بكين الاقتصادية، وهي ثاني أعظم الاقتصادات في العالم اليوم، لا تقل أهمية في نظر الصينيين الذين ينتظرهم الكثير من الامتحانات الصعبة. إنما علينا ألّا نرمي السهم بعيداً وألّا نُؤخذ بما قاله الرئيس الصيني لضيفه بوتين في اجتماعهما الأخير في شباط/فبراير الماضي في دورة الألعاب الأولمبية في بكين، من أن صداقتهما “لا حدّ لها” وأن بوتين هو”أفضل أصدقائه”، فالأولية بالنسبة للصين، ليست الصداقات ولا التحالفات ولا المصالح المتغيرة ولا قمة العالم…بل الأولوية هي الصين دائماً. وإذا كانت بكين وموسكو تتقاسمان الرغبة الثابتة في إعادة تشكيل النظام العالمي بما يضمن لهما مكاناً متقدّماً فيه، فتتساعدان وقد تتبادلان الأدوار في مواجهة أميركا والغرب على أمل تجريد واشنطن من بعض نفوذها لتفوزا به. إلا أن هذا السلوك لا يمكن أن يمر بسهولة ومن دون نتائج سلبية، ولا سيما على صورة الصين التي يهمها الإبقاء على جسورها مفتوحة مع الغرب. ولا ينبغي تجاهل حقيقة أن أواصر العلاقات الصينية-الروسية لم تتقدّم وتترسخ حديثاً إلا على صفيح التوترات بين بكين وواشنطن. لذا فالمشكلة الأخطر أمام الصين تتمثل بكيفية إدارتها العلاقة بروسيا من دون إثارة حفيظة الغرب، ما سوف يُؤثر على مستقبل وضعها كقوة عالمية مقبولة من قبل الشركاء التجاريين الكبار في العالم، وبالتالي كقوة عالمية عُظمى. وهذا قد يضطرها إلى مغامرة من نوع من الروليت الروسية، حيث لا أحد يعرف إذا كانت الطلقة تحت الزناد إلا بعد إطلاقها. ولعل في شدة الحذر الصيني ما يفسّر ضبابية أداء بكين على حبلَي الغرب وروسيا.وعلى أية حال فمن المفارقات البارزة أن علاقة الصين بالولايات المتحدة الأميركية (وليس علاقتها بروسيا) خلال العقود القليلة المنصرمة، هي التي أتاحت لها أن تصبح دولة عظمى واقتصادا عملاقاً، وحدِّدت بالتالي مكانتها في العالم. والمعنى أن حاجة الصين لأميركا ربما لا تقل عن حاجتها لروسيا.وهنا لا بد من استحضار مقولة أستاذ السياسة الإنكليزي العريق إذ أخبرنا أن ليس في السياسة صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة.

 

Exit mobile version