محمود بري | كاتب وباحث لبناني
الورقة التي كتب عليها الرئيس نجيب ميقاتي بخط يده أسماء الذين اقترح توزيرهم، هي ببساطة وصراحة، مبادرة استفزازية. ومن معاداة الحقيقة توصيفها باقل من ذلك. المعنى أنه أُريد لها أن تستفز الطرف الذي رُفعت إليه، لتسدرجه إلى ردود فعل من النوع الذي يندم صاحبه عليه، الأمر الي لم يتحقق…حتى الآن.
من الممكن اتهام الرئيس المكلّف أنه مُرتاح لحكومته الحالبة، حكومة تصريف الأعمال، ولا ينوي ــ إن استطاع ــ تشكيل حكومة جديدة.
الإتهام سهل في لبنان. والإثبات الموثق ليس أقرب إلى الاخذ به من الشائعة. بوسع من يشاء أن يأخذ بالتهمة ويصدقها ويبني عليها، تماماً كما أنه بوسع من ينكرها أن يمضي بعيداً في نفيها واستبعادها وحتى تسخيفها. وهذا كله لن يقدّم أو يؤخر ولن يغير شيئاً البتّة في طبيعة المشهد. فهذا النمط من “الأداء اللبناني” هو المعتمد في البلد منذ بدايات الـ”ملعوب” الذي انتهي بنا إلى هذه الحفرة التي ليس لهلا قرار، أعني به “ملعوب الأمن بالتراضي”، أي بتراضي الدركي والمرتكب.
صحيح أن الوقت اليوم لا يسمح لا بمناورات ولا بمساومات ولا باللعب على الحبال. والأصح كذلك أن البلد في أمسّ الحاجة إلى حكومة في أسرع وقت… لكن هذا لا يعني أن يطوي الرئيس المكلف ورقة حكومته في جيبه… ثم يمضي في لعبة إستشارات (وهمية) غير مُلزمة (بنتائجها)، كمن يلعب دوراً ثانوياً في مسرحية ممجوجة… وذلك لمجرّد تعبئة وقته من وقت الناس والبلد، غير آبه كثيراً ولا قليلاً بحاجة الوضع المُستعصي إلى استشارات حقيقية وجادة تُنتج حكومة كاملة اللياقة.
ثم كيف يمكن له تجاوز رئيس الجمهورية بإجراء تعديلات في حكومة يقترحها في هذه المرحلة الحسّاسة، من دون اي تشاور مُسبق مع الشريك الإلزامي، وهو يدرك يقيناً أنّ أيّ حكومة لن تمر بسهولة ما لم تتطابق مع مواصفات بديهية لمؤسسة دورها ادارة “فراغ رئاسي” محتمل، في حين أن المتعلّم والأمّي يدركان أن هذا جميعه ليس ترفاً على نيّة الديمقراطية بل حاجة حيوية ضاغطة، وأن الوقت داهم الجميع وبات يضاعف حجم الأزمة وثقلها من دون هوادة، وبالتالي فلا وقت للألاعيب والنكد.
ووسط الغموض الكبير الذي يكتنف اللعبة الدائرة، من السهل استشراف ألف سبب وسبب يمكن أن يكون وراء اندفاع الرئيس المكلّف إلى “استضعاف” العهد والتفكير الجاد بدفنه قبل حلول الأوان. فالرئيس في بعبدا لم يترك فرصة إلا واستثمرها للتدليل على ضعف شكيمته وهُزال الوسائل التي يعتمدها لإدارة الشؤون التي عليه إدارتها. صحيح أن هذين الضعف والهُزال يبدوان غريبين تماماً عمن سمعة الجنرال وعن تاريخه “قبل ولوجه عتبة أرذل العهد”، إلا أنهما شكّلا السمة الأبرز لعهده منذ البدايات الأولى، بصرف الاهتمام عن مواويل الحوربة بالصنوج وسيوف الخشب. وكل ما طلبه بحسن نية (من دون أدنى شكّ)، من إصلاح وتغيير، انتهى كفقاعات الصابون في يوم مطير. ليس أن العهد وُلد ميتاً، بل الأحرى أنه قٌتِل… وشبع موتاً بعد أقل من عام على ولادته.
مقتل العهد كان، كما لم يعترف به أحد من المستشارين… وربما لم ينتبهوا إليه ولا افترضوه، كان سقوطه في فخّ “حكومات الوحدة الوطنية”. فهذه التسمية البرّاقة للسم الناقع، كان لها تفسير واحد لا تخفيف له وهو إشراك “رسول التغيير والإصلاح” في محفل الخراب الذي تسلّم كهّانه البلد بموجب الحرب التي شنّوها عليه، ثم تمكّنوا فقادوه إلى المسلخ …ولم يشبعوا من السلخ بعد ولا شاءوا إنزال الذبيحة عن “البلَنكو”.
الكل يدرك من دون جهد أن العمق الحقيقي للمعركة الدائرة اليوم، ليس محصوراً بين شخصين ولا بين أسلوبين في الحكم، بل إن المقصد هو مآل السلطة في المرحلة المقبلة، وترسيم حدود القوّة بين “مربعات” القوى المتذابحة على عصا السلطان الذي سيفرض وجوده في التسويات الداخلية المقبلة.
وهنا ينبغي إعلانها بصراحة الألم… وقد انتهى زمن الضحك على الذقون، مع وجوب تحييد شخص الرئيس الذي ندّعي أنه “يملك ولا يحكم”. ذلك أنه وبمجرّد أن “لحس” المحيطون به “حلاوة الحرام”، حتى تداعت كل أهازيج التغيير والإصلاح، وانقلبت الخطة رأساً على عقب. وفي أحسن الأحوال يمكن القول أن الرئيس شغله الاهتمام بروما من فوق، كما يفعل الرؤساء، في حين انخرطت جماعاته في شؤون روما من تحت، حيث الأعمال والمال والصفقات والبورسانتاجات… ومن لا يُصدق فليسأل العارف الـ “عزيز”.
لكل ذلك فمن الطبيعي أن تتواصل جولات الكرّ والفرّ بين الأطول عمراً والأطول قامة في نادي الذين فوق. والغلبة لن تكون إلا لصاحب النَفَس الأطول… وهو الذي اشتهر بعناده، واستطاع خلال دقائق قليلة أن يحرق المسودة الوزارية الأولى، من دون أن يبذل جهداً يُذكر.
لكن المشكلة ليست فوق. فالجماعة مرتاحون فوق ويتابعون تأدية أدوارهم التي باتوا محترفين في تأديتها. المشكلة الحقيقية هنا ، تحت، عند الناس… هذه االمخلوقات التي خسرت شرف تسميتها القديمة (عندما كانت تُدعى بالشعب) ولم يبقَ منها غيرنا… هذه القطعان الأليفة من أغنام جفّت ضروعها أو تكاد.
وما يحصل من اليوم وصاعداً حتى إسدال الستارة على العهد، لن يكون أكثر…ولا أقل من “دقّي واعصري”. حبّذا لو نبّه أحدهم صاحب العهد أن ما يمكن تنفيذه في خريف الأربعة أشهر الباقية من عهده، لن تكون أكبر مما أمكنه تحقيقه خلال الأربع سنوات المنصرمة… بل حتى منذ بداياته الأولى، حين كان عليه أن يضرب على الطاولة بقبضة ميشال عون… لكنه تردد وأحجم، فخسر فرصة العمر… وخسر العهد وخسر الناس وخسر البلد.