كتب محمود بري | نعمة الخوف في بلد الرؤوس الحامية

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

أكثر من شهر انقضى على انتهاء همروجة الانتخابات النيابية، والبلد ما يزال في موضعه، لم ينتقل أيّ خطوة إلى الأمام، لكنه تحرّك…ويتحرك، إلى الخلف والأسفل. وبدلاً من أن يأتي بالحل، أيّ حل، فالبرلمان الجديد جاء معه بمأزق جديد . قبله كانت التوتوليتارية البرلمانية رائجة وتُسهل الأمور، اليوم يواجهنا مخلوق هجين غريب عجيب بأكثر من 120 ذراعاً، لا أكثرية لأحد فيه لتصنع المخارج، وبالتالي لا حل فيه لأي مشكلة تعترض “مسارات التشريع والمراقبة” حيث أن المجلس، أعني الجديد، لم يباشر عمله في التشريع والمراقبة، شأنه شان سلفه، ليس لانشغال رؤساء الكُتل بالحسابات والأرقام بعد أن تجاوزوا هذا العارض الممل، بل لمتابعتهم زيارات هولشتاين وتحليل ملامح وجهه خلال وبعد كل لقاء بانتظار ما سوف يعود به، والتخوف من الاحتمالات المقبلة.

على الأرض، تواصل الأمور منحاها الدراماتيكي المعتاد. الأسعار ترتفع والمائة ألف ليرة تفقد المزيد من قيمتها الشرائية في طريقها إلى الاختفاء من ميدان التعامل لصالح الورقة الخضراء. فاتورة مولد الكهرباء لاشتراك 5 أمبير تناطح الأربعة ملايين ليرة، وهذا المبلغ يزيد بأكثر من الضعفين عن راتب 85% من الموظفين وأكثر من 93% من المتقاعدين في القطاع العام، بينما الحد الأدنى للأجور لم يبارح عتبة الـ 675 ألف ليرة، بصرف االنظر عن المواويل الرسمية، ومصرف لبنان يضخ يومياً ما لا يقلّ عن40 مليون دولار في السوق لتهدئة العملة الأجنبية التي لا تهدأ.. إلا لتثور من جديد،  وليسجّل غيلانها مزيداً من النهش الوحشي  الذي يقتطعه غيلان المضاربات من أفواه المواطنين المستنقعين في انتظار فرج لا يأتي.

التدليل على مقدار البؤس وفقدان الرجاء يتمثّل بأن الآمال اللبنانية باتت معلّقة على تفاوض غير واعد مع العدو عبر يهودي أميركي مزدوج الجنسية. ومن الواضح أن الطريق ليس مُمهداً لبلوغ الاتفاق، بخاصة وأن ليس من مصلحة العدو ولا “الوسيط”  التوصل لأي اتفاق يُخرج لبنان من أزمته، ويسمح لبيروت باستخراج الغاز والنفط وحلّ نكبتها المالية، قبل أن تقدّم التنازلات المطلوبة في ملفات عدة أولها الترسيم والتطبيع على الأقل.

من جهة أخرى وعلى الجبهة الداخلية، فالوضع السائد بات يشكل تهديداً حيوياً للمواطن ويخلخل الركائز الأساس للنظام الاقتصادي المعمول به في البلد، بينما المواطن يتقلّب بين فكّي تمساح التضخّم الذي يرمي الاقتصاد في حفرة الكساد.  وهذا بالمناسبة ليس مُستورداً ولا مدسوساً من أيّ عدو أو خصم أو منافس، بل هو “صناعة محلّية” صرف من تدبير الزعماء أنفسهم… “المتفرّغين” لمواجهة أطماع العدو  و”حماية” حقوق لبنان في الغاز والبترول. وهؤلاء الغيارى، لمن يهتم، هم أنفسهم أبطال فوضى التسعير الجنوني والتلاعب بأسعار المواد الاستهلاكية والتسبب بكل هذا السقوط المالي والانهيار النقدي في سبيل مراكمة ثرواتهم التي تتنامى بقدر ما تتعمّق أزمة الناس والبلد. وهم أنفسهم، أيضاً، الذين استبقوا الموسم السياحي الموعود بـ “الدولرة” ليضمنوا ما يهمهم ويعنيهم …وهو الربح من دون حدود، وبالورقة الخضراء الفريش.

وعلى الرغم من انقضاء أطول عامين من الأزمة غير المسبوقة، فإنهم لم يسعوا ولم يهتموا بصياغة أي برنامج حقيقي للتعافي ومباشرة السير بالبلد على طريق أي استقرار اقتصادي ومالي، ولو كان بدائياً، اللهم إلا إذا صدّقنا أن جهود الصياغة اللغوية المبذولة لتدبيج بياناتهم بهذا الصدد، هي برنامج التعافي المنشود.

لكن ثمة إيجابية قائمة، إن كان بالوسع اعتبارها إيجابية، وهي أن لا طرف في الداخل يتجرّأ على إشعال حرب أهلية جديدة (لأنه لا يضمن حسمها)، وبالتالي فلا طرف داخلياً يطلب القتال، لا المسمى بالقوي ولا الموصوف بالضعيف؛ توازن الخوف هو ما يتلاقون عليه، إذ كلّهم يخاف من كلّهم. “نعمة الخوف” هذه هي ما يكبح جنون الحرب…. هذا في حين أن أولي الأمر يُنكرون وجود مشكلة حقيقية في البلد، مستشهدين بأولئك العشرات من ذوي القمصان النظيفة الذين يتكررون هم أنفسهم في المطاعم والمقاصف والمقاهي أيام الويك إند وخارجه.

أما زعماء التجمعات التي تُسمّي نفسها “الأحزاب السياسيّة”، فقد اعتادوا سدّ  عن أنين البشر ولا يسمعون غير أصواتهم وتصريحاتهم  وهم يسوِّقون لأنفسهم ويرمون كلّ الآثام والمعاصي على الخصوم، ثم يتعاملون مع زيارة هوكشتاين وسماجة تعليقاته الساخرة، كما لو أن الموقف الرسمي الموحد (المزعوم) حول ثروة وطنية يُعوَّل عليها في إعادة بعث الروح في الاقتصاد الوطني، هو إنجاز فائق لهم “خطفوه من قلب السبع”.

أما – مثلاً – أن يكون الاستخراج من حقل كاريش وغيره قد بوشر قبل ظهور هوكشتين على طاولة التفاوض، فهذا أمر لا يستحق منهم الاهتمام، كما لا يستحق الاهتمام ما إذا كان حقل قانا (الذي لم يتم سبره) يحتوى فعلاً على غاز ونفط أم لا، تماماً كما أنهم لم يعترضوا على توقف العمل قبل ذلك في البلوك رقم 4 بشكل فُجائي، مرددين مزاعم خلوه من النفط والغاز، بينما يقول غيرهم أنه يحتوي  أكبر خزّان طبييعي للغاز في المتوسط، وقد تبيّن أنه قد أُعز للشركة المكلفة التنقيب (توتال) بالتوقف عن العمل فيه من قبل الأميركيين.

الرؤية سوداوية ولا شك… لكن، على الر غم من كل ذلك فثمة بريق أمل… وفرصة ما تزال مُتاحة أمام لبنان. فالحاجة الأميركية للطاقة في أوجها، وواشنطن مهتمة استثنائياً اليوم باستخراج غازنا، كجزء لا بأس به من البديل الذي تنشده عن الغاز الروسي. من هنا فأفق الاستفادة من الكنز اللبناني مفتوح، ولو مواربةً، بشروط أميركية أولها أن يتم العمل عبر شركات أميركية، لا “توتال” الفرنسية ولا بالطبع أيّ شركة روسية أو سواها.

أما دعوة السيد نصرالله إلى التضامن الوطني حول ملف “كنز لبنان”، واعتماد القوى المتنناتشة موقفاً موحداً أمام الطامعين، فذلك لسوء الطالع، مطلب بعيد المنال. ذلك أن صاحب السلطة الأساس ومنبع السلطات كلّها، “الشعب”، غائب… وضائع بين واقعية سياسية بات يتخوف من مفاعيلها، وخطابات مواجهة صارت تعني له المزيد من الغرق… وهو يتخبط بلا جدوى في سبيل تصحيح مدخوله وفقاً لجنون مؤشرات الحياة.

ربما كانت نافذة الأمل المتبقّي تتمثل في قلّة ما زالوا يعتقدون أن لبنان “بلد الرؤوس الحامية” هو أساساً بلد التسويات، وأنه لا يمكن حكمه من دون تفاهمات سياسية.

 

Exit mobile version