محمود بري | كاتب وباحث لبناني
هل يتحتم فعلاً نشوب مواجهة واسعة النطاق بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)…تتحوّل إلى حرب عالمية؟ هكذا تساؤل ينبغي أن ينم عن مقدار وافٍ من المبالغة. إلا أن وزير الخارجية الروسي نفسه “سيرغي لافروف” هو من طرح هذا الاحتمال في حديث له نقلته وسائل الإعلام، حين قال إن “الحرب مع الناتو قد تقع في أي وقت، ونحن مستعدون لها”. والرجل ذو الوجه الفولاذي المُقفل، لم تُعرف عنه الخِفّة ولا المزاح في أمور بهذه الخطورة. من جهة أخرى فـ “العالم النووي” كلّه، وليس روسيا وحدها، في حالة تاهّب. وداخل الإدارة الأميركية نفسها تتعالى أصوات تنادي بضرورة استخدام القوة العسكرية ضد روسيا، على اعتبار أن ذلك، وليس الديبلوماسية، هو الحل الأنسب للتعامل مع منطق القوة. وحتى على المستوى الجماهيري العالمي العام فإن وسم (#الحرب_العالمية_الثالثة) هو اليوم الأكثر تداولا وانتشاراً. فهل يجوز إهمال كل ذلك والاطمئنان إلى أن مناخ التوترات الشديدة السائد حاليًا بين جميع الأطراف، لا يعني شيئاً، ولا يقود منطقياً إلى افتراض الأسوأ، وبالتالي فلا احتمال البتّة لحدوث نهاية أبوكاليبتية للإنسان، لمجرد علم الجميع بأن أحداً لن يخرج من ذلك منتصراً..؟ الواقع أن الأخذ بهذا المنطق (المُريح) لا يبدو خطأ أبداً. ثم إن أوكرينيا التي اختارها الأميركي “ورطة” لروسيا ليس أكثر، لن تستحق منه بالطيع أن يجعلها شرارة حرب عُظمى تأتي في أقل الاحتمالات على ملايين الأميركيين من دون أدنى شك… هذا يبعث على الاطمئنان، لكنه لا يُقفل بوّابة الخطر. فالحرب لنتكون دائماً نتيجة قرار بالضرورة، وثمة مجال دائماً لوقوع أخطاء أو تقديرات خاطئة، يمكن أن تهبّ منها رياح غير متوقعة، لا سيّما وأن ازدياد عدد المتحمسين لعمليات دعم أوكرينيا بالسلاح والذخائر(من الدول الغربية)، ترفع احتمالات وقوع أخطاء غير مقصودة وحوادث عرضية لا تكون محسوبة، يمكن أن تستتبع ردّات فعل تتوالى من دون قصد ولا سيطرة… ولا يجري التدخل المسؤول المناسب لقطع تسلسل الأحداث، إلا متأخراً بعد أن يكون أفلت الزمام. هذا كلّه مجرّد افتراضات. ومن الطبيعي الاعتقاد أنها وأشباهها تُدرس في قاعات مُقفلة من قِبل معنيين يقفون خلف الممسكين بصيرورة الأحداث والقابضين على أزرار نهاية العالم. إلا أن الافتراض المظلم ليس مجرّد ريشة تداعبها هبّة ريح عشوائية، وبالتالي فمن السذاجة الاطمئنان إلى أن الأمور لا يمكن أن تتطوّر وربما تخرج عن السيطرة، سواء جرّاء أنشطة عرضية أو متعمدة على طول حدود أكبر دولة أوروبية وأطولها حدوداً. فمنذ مدة غير بعيدة في مطلع آذار/مارس الحالي رفعت الجهات الرسمية السويدية عقيرتها محتجّة على ما قالت إنها طائرات حربية روسية خرقت أجواءها عنوة عبر فضاء بحر البلطيق، علماً بأن السويد ليست عضواً في الناتو. هذا يمكن أن يحدث، وربما يكون قد حدث بالفعل، ولربما يحدث ما هو أسوأ: أن يتوه صاروخ روسي ما عن مساره ليسقط في أراضي دولة أطلسية محاذية لأوكرينيا… مما يُعتبر لو حصل، اعتداءً على دولة في حلف الناتو، يوجب الرد عليه. ومن يمكنه تبرِئة الرئيس الإنقلابي الأوكراني “فلودومير زيلينسكي” من نوايا سيئة ضد روسيا قد تدفعه إلى قصف بلد أطلسي مجاور انطلاقاً من منطقة يسيطر عليها الروس في أطراف بلده، ومن ثم يجري اتهام الجيش الروسي بذلك… كلها احتمالات قائمة وممكنة الحصول على الرغم من أنها بعيدة الاحتمال. لكن، من كان يحتمل نشوب الحرب الحالية، وهي أكبر مواجهة عسكرية تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية…؟ من جهة أخرى، وطالما الغرب يتباهى متنافساً بفرض المزيد من العقوبات المشفوعة بالتهديد والوعيد تجاه روسيا (تجاوزت الـ 5600 عقوبة)، فماذا لو افترضنا أن يُقدم الرئيس بوتين الذي وصفه ندّه الأميركي بأنه “مجرم حرب”، على خفض ما يزوّد به الغرب من مواد يستحيل على هذا الغرب العيش من دونها (بينما تتلقفها أسواق بقية العالم بحماس وشغف)ن فلا يقتصر ذلك على النفط والغاز بل يتعدّاهما إلى مواد أخرى تُعتبر روسيا من أهم مُزوّدي العالم بها، وأهمها القمح والحبوب والأسمدة والنحاس والنيكل والألومنيوم والبلاديوم والتيتانيوم… ؟ إن إجراءً كهذا لن تقتصر مفاعيله فقط على رفع الأسعار (وأرباح روسيا) بشكل فلكي، بل سوف يتسبب بأزمة عالمية يمكن أن تأتي على رفاه الاقتصاد الي يتباهى به الغرب تحديداً على ضفتيّ الأطلسي…؟ ألن يفتح هذا كُوّة في جدار الاطمئنان ويبيّن أن الحرب في أوكرينيا يمكن أن تتطوّر لتصيب بلعنتها العالم بأسره… هذا العالم الذي شهد ويلات حربين عُظميين، انطلقتا، ليس من أي مكان آخر على الكرة الأرضية، بل من أوروبا ذاتها التي تتقلّب اليوم على صفيح أوكرينيا الساخن…؟ ولحسن الحظ… ليس كل ما هو محتمل، وممكن… يكون محتوماً ولا بد أن يحصل بالضرورة. وهذا النوع من المنطق هو ما يراهن المطمئنون عليه.