كتب محمود بري | معاناة في الغرب وحديث عن “الأرض مقابل السلام” أوكرينيا:

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

أول مشاكل أميركا اليوم هي أوكرينيا. حضّروها كحلم ويعيشونها ككابوس. وهذا أمر بديهي. الدولة التي أرادها البنتاغون “مقتلاً” لصعود بوتين- روسيا، تحوّلت إلى فخ للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. وهذا تحوّل لم يكن بالحسبان. لذلك فالتحالف الأميركي الأوروبي يسير نحو الهاوية، ولو كان المعني بالأمر لا يُدرك أو لا يريد أن يُدرك. ليس أن الغرب بات على شفير هزيمة وشيكة أو نكسة على الأقل أمام الروس، بل إنه، وهذا أمر آخر لم تحسب الإستراتيجة الأميركية حسابه أيضاً، بات في وضعية الدفاع عن النفس في عقر دار عواصمه ومدنه.

كان على واشنطن بدايةً أن تجد وسيلة ما لاستنفاذ الطاقة الروسية الفائضة، فاختارت أوكرينيا، شريكتها المأمونة وغير المُعلنة في ميدان الحروب السرية وتجهيز وتعزيز ترسانة الضربات البيولوجية بالجراثيم والفيروسات والأوبئة. ومع بروز دور “فلوديمير زيلينسكي” الذي يستقبل قادة أوروبا بالـ”تي شيرت” العسكرية الزيتية ويُلقي عليهم توجيهاته ومتطلّباته بلهجته النزقة، كانت أوكرينيا تتحوّل، ببشرها وحجرها واقتصادها.. إلى جدار صدّ عن الغرب الذي يمارس عملياً لعبة محاربة الروس حتى آخر أوكريني.

من أسوأ ما أدّت إليه العملية الروسية الخاصة، أنها حرمت هذا البلد من قواه الاقتصادية الهائلة، سواء بالإتلاف أو بالإستحواذ. لذلك باتت حاجة الدولة الأوكرينية ماسة إلى المال لإدارة شؤون البلد. وترجمة هذا كانت مئات مليارات الدولارات التي تدفقت وتتدفق عليها من خزائن الغرب الأميركي والأوروبي. لكن الغرب الخارج حديثاً من أزمة الكورونا، لم يكن في ملاءة مالية كافية، فأدى “السخاء الإكراهي” الذي صار مُلزماً بتقديمه لـ”جدار الصدّ” إلى اشتداد الضغوط الاقتصاديه في مختلف دوله.

وإلى المال، احتاجت أوكرينيا وتحتاج بشكل عاجل ومستدام إلى الذخيرة أولاً، ثم إلى السلاح، ومن بعد إلى أسلحة مختلفة عمّا في ترسانتها الشرقية القديمة أساساً، على أن تكون حديثة ومتقدّمة أكثر دقة وأبعد مدى. وهذا يتطلب الكثير من الجهد والعطاء: إستثمارات مالية عالية ومضاعفة ثلاث مرّات، أولاً لتصنيع الأسلحة المطلوبة؛ وثانياً لتعويض ما جرى ويجري تقديمه منها من مخازن ترسانات الجيوش الغربية ذاتها؛ وثالثاً لتعزيز أسلحة وذخائر قوّات الحلف الأطلسي التي استنفذت معظم ذخائرها وأسلحتها (التي عفا عليها الزمن) بعد أن قدّمتها لأوكرينيا على عجل. وفوق كل ذلك، لا بد من معسكرات تدريب وتأهيل لألوف الضباط والجنود الأوكرينيين وحلفائهم من التنظيمات المتشددة، ليصبح بإمكانهم استخدام الأسلحة الغربية الحديثة.

وهذا كلّه ليس بالأمر الميسور ولا يبدو أن الغرب قادر على القيام به كما ينبغي. ولذلك تتواصل النكسات العسكرية الأوكرينية وتتساقط المدن والمناطق تِباعاً في يد الروس، بينما، وبالتوازي، تتصاعد حالات التبرّم والتذمر في الغربين الأميركي والأوروبي أمام الصعوبات الاقتصادية والأزمات المستجدة على هذا الصعيد.

وإذا أخذنا على محمل الصدق ما بثّته  قناة CNN  عن “مشاركة مدربين عسكريين أميركيين ومن دول الناتو الأخرى، سراً، في الأعمال القتالية في أوكرانيا، فهذا يعني أن الأميركيين باتوا يقاتلون روسيا مباشرة لتعويض النقص العددي وقلّة الخبرة لدى القوات المسلحة الأوكرانية، بمن فيهم مشغلو  شبكات Nasams الأميركية المضادة للطائرات”؛ وهذا لا يمكن أن يكون خارج معرفة الروس، وبالتالي فالأمر يتخذ طابع خطورة استثنائية.

بعد هذا يأتي دور الاقتصاد.

فإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي بات تابعاً للسياسة الأميركية، ويتعرّض للكثير من التهميش كما لو أنه مجرّد كيان اقتصادي مكرّس للتلبية وليس للمبادرة، فهذا كانت له تبعاته المباشرة والقاسية على المستهلك الغربي نفسه الذي لم يتقبّل أن تُلزمه سياسات حكوماته بالتخلّي عن رفاهيته والدخول في “زمن القلّة”.

لنبتدئ من أميركا أولاً. ليست قوافل السيارات أمام محطات الوقود هي المظهر الأسوأ، ولا حتى الغلاء المستجد. أساس المشكلة هو التضخم الذي بلغ في بلاد الأنكل سام نسبة  8.6% بحسب مؤشر أسعار المستهلكين الذي أصدرته وزارة العمل الأميركية، وهو رقم لم تشهده البلاد منذ حوالى 40 عاماً. كذلك فالأسعار تضاعفت مرتين وأكثر خلال الشهرين المنصرمين، وبخاصة أسعار السلع الغذائية. والأخطر من  ذلك اهتزاز سوق فُرص العمل، حتى أن شركة “تسلا” عملاق التكنولوجيا لـصاحبها “إيلون ماسك” أعلنت حديثاً تخفيض عديد موظفيها بنسبة 10%… ما يعني “تخريجهم” إلى البطالة. وهذا أكثر ما يؤلم المجتمع الأميركي.

وعلى الجانب الأوروبي لا تبدو الحالة أقلّ سوءاً. فالقارة العجوز خرجت من زمن الكوفيد-19 وهي تعاني من تضخم مؤلم لم تعرفه منذ نصف قرن. ثم أضيف إلى هذا إرتفاع أسعار الغاز والوقود، وكذلك الغذاء والحبوب والأسمدة الزراعية. وهذا ليس بالأمر الهيّن على قارة يعرف قادتها أن الغاز والوقود هما ثنائي روحها الصناعية والإنتاجية. وبين يوم وليلة أعادت  الكمّاشة الأميركية- الروسية أربع دول أوروبية (اساسية) إلى عصر الفحم: فرنسا ايطاليا والنمسا وألمانيا. وهذه الدول ذاتها كانت رضخت للإرادة الروسية وباتت تدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل نزولاً عند حاجتها المُلحّة، وكانت بالتالي أحد الأسباب الرئيسية في تعافي الروبل وارتفاع سعره.

في ألمانيا تحديداً ، وهي عملاق الصناعة والاقتصاد في الغرب الأوروبي، ارتفع معدل التضخم، الذي يُقاس بالتغير السنوي في مؤشر أسعار المستهلك بـ 7.9% ، وبذلك وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق للشهر الثالث على التوالي، منذ إعادة توحيد ألمانيا.

ومع انخفاض النمو تدّنى عدد فرص العمل المُتاحة وانخفضت وتيرة التوظيف على إيقاع ارتفاع صارخ للأسعار.

وفي بريطانيا أيضاً أعلن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني أن  التضخم سجل أعلى مستوى له منذ 40 عاماً فبلغ 9.1% . وهذا لم تشهده رعية صاحبة الجلالة منذ عقود، هذا على الرغم من أن لندن تستخدم جميع أدواتها لمكافحة التضخم كما قال وزير المالية “ريشت سوناك”. وكما في ألمانيا وكل أوروبا، فقد ارتفعت الأسعار فيها بشكل ملموس، ولا سيما منها أسعار الطاقة بحيث اضطرت السلطات البريطانية إلى فرض ضريبة على شركات الطاقة العملاقة في البلاد بنسبة 40% لمساعدة محدودي الدخل.

المغزى العام من كل ذلك، ومهما حاول البعض إشاحة الوجه والاهتمام عنه، أن المستهلك الأورووبي بات هو من يدفع ثمن الحرب في أوكرينيا، هذه الحرب التي دفع إليها الأميركي بينما الأوروبي غير مدرك لما يجري ثم بات غير راغب به وعاجز عن الخروج منه… وربما لن يبقى صامتاً عليه، وطرح التساؤلات عن مدى صوابية التزام حكوماته بالرغبات الأميركية.

يبقى الخروج من هذا المأزق، وهذا ما يطلبه الجميع من دون أن يتقدّم أيّ طرف بالمبادرة.

وثمة فقط كلام يدور في في بعض الفضاء العام عن مقولة الأرض مقابل السلام. “الغارديان” البريطانية مثلاً خرجت بعنوان كتبه محررها “سايمون جينكنز” يقول إن “ثمن السلام في أوكرانيا هو التخلي عن دونباس والقرم”… على اعتباره أن “النزاع في أوكرانيا هو مع بوتين، وليس بين الغرب وروسيا”.

وهذا يتوافق مع ما يتطلبه الروس.

 

Exit mobile version