كتب محمود بري | ماذا بين درونات المقاومة ونجيب ميقاتي؟
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
بعد الرسالة الشفوية بلسان السيد نصرالله قبل أسابيع، كان لا بد من رحلة المسيّرات الثلاث غير المذخرة لتأكيد المؤكد. ما فهمه الإسرائيلي من الرسالة أعلنه المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشواع فقال: “ما لم تتنازل إسرائيل للبنان فإن بإمكاننا (الحزب) إرسال مسيّرات غير مفخخة، ولكن بإمكاننا أيضا إرسال مسيرات تتفجر على المنصة عندما يبدأ العمل فيها”.
المعنى أن هدف العملية تحقق؛ جزء منه كان الإنذار والتنبيه، أن توقفوا عن أي خطوة باتجاه استخراج النفط والغاز عملياً طالما لم ينتهِ شيء بعد في موضوع ترسيم الحدود. وكما جاء في بيان المقاومة فالرسالة وصلت… إلى العدو، كما إلى وزراء الخارجية العرب الذين كانوا افتتحوا للتوّ اجتماعهم في بيروت. وكل ما فعلوه إثر ذلك أنهم ارتبكوا أولاً ثم اسرعوا في انهاء جلستهم الختامية حتى من دون اصدار اية توصيات، في حين كانت المؤسستان الأمنية والسياسية لدى العدو تتفقدان رأسيهما بعد المفاجأة التي هزّتهما من الأعماق. أما الكورس اللبناني المملّ الذي لا يني يردد ببغائية ممجوجة اتهامه لـ “حزب الله” بأنه يضحّي بالمصلحة اللبنانية تحقيقاً للمصلحة الإيرانية، فقد جاءت الدرونات الثلاث لتؤكّد مرة أخرى أن “حزب الله” يُقدّم مصلحة لبنان العليا على أي مصلحة سواها، اقليمية كانت أو إيرانية تحديداً، كالمفاوضات النووية، أو سواها. كذلك أثبتت العملية مرة إضافية، جدّية المقاومة في الدفاع عن لبنان وعن حقوقه في ثرواته. وهذا ليس هو الإنجاز الأول. فالمسيرات التي أُسقطت فوق منطقة حقل كاريش لم تلتقط فقط منطقة تواجد السفينة اليونانية، كما ظهر في الصور التي تناقلها الإعلام، بل هي ، وهذا ما لم يعلنه أحد، كانت ثلاثتها تعمل في بثّ لحظوي متواصل لكامل مسيرة رحلات كلٍ منها، من رمال الشاطئ الفلسطيني وحتى تدميرها فوق مياه البحر المحتل… بما في ذلك تلك تصوير المناطق المحتلة وما فيها من طرقات وجسور ومسابح ومنشآت فندقية وسياحية، مع المراكز العسكرية بالطبع. وهذا إيذان بامتداد حرب المقاومة ضد الاحتلال إلى الميدان الجوي.
إن جهد المقاومة يقوم على أساس أن ليس ما بيننا والعدو سوى الحديد والنار.. و”أعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة…”. وحصول لبنان علىى حقوقه في مياهه الإقليمية لن يتحقق بغير قوّة تتيح له مستوى من التكافؤ لإتمام عملية ترسيم للحدود ينبغي لها أن تكون مُنصفة فيقبل بها طرفاها كلاهما. وهذا لن يتحقق لنا أمام عدو متغطرس إلا بإعدادنا مقوّمات قوّتنا جميعها، وأن نكون على دراية كافية بما ينتظرنا وراء خط الاحتلال. وأحد وسائلنا في هذا السبيل هي الدرونات الكاشفة. وهذا كلّه مفهوم.
وهنا من الضروري التذكير بأن “أم المشكلة” المتصلة بالترسيم والماثلة اليوم، جرى تأسيسها منذ العام 2006، حين عمد رئيس “الحكومة البتراء” فؤاد السنيورة إلى تنفيذ “عملية ترسيم خاطئة” للحدود اللبنانية مع العدو المحتل، الأمر الذي أتاح إنشاء منطقة هي حق طبيبعي وقانوني للبنان، جعلها الترسيم السنيوري المغلوط أساس المشكلة الراهنة المتمثلة بما بات معروفاً بـعقدة “مزارع شبعا البحرية”.
واستكمالاً لهذا “الترسيم المغلوط” جاءت الترسيم الثاني في سياقه ذاته وبدفعٍ وإشراف من حكومة الحاج نجيب ميقاتي عام 2011، فجرى ترسيم حدود لبنان على أساس الخط 23 ولا أي خط سواه. وهذا أفقد لبنان المزيد من حقه وزاد المشكلة تعقيداً، واضاف عوائق جديدة أمام تمكيننا من استثمار ثرواتنا في مياهنا االإقليمية والتي نحن في أمسّ الحاجة إليها في هذه الشدّة. وهذا ما تقصّد السيد نصرالله مبكراً التنبيه له حين أشار في إحدى خُطبه إلى أنّ “قضية الثروة النفطية والغازية في المياه اللبنانية لا تقل أهمية عن تحرير الشريط الحدودي المحتل”.
إلا أن مجموعة السياسيين المعنيين بملف الثروة النائمة في الأعماق، ومعها مسألة ترسيم الحدود مع العدو، فإنهم، على ما يعلم الجميع، ينأون بأنفسهم عن القيام بواجباتهم الرسمية والوطنية، من أجل أن يضمنوا نجاتهم من أية عقوبات أميركية، فيُحاولون شراء العفو عن فسادهم مقابل ثروة لبنان النفطية والتي تبلغ عشرات مليارات الدولارات، كأنما مصالحهم الذاتية تمرّ قبل المصالح الوطنية، وينتظرون ما يسمى “الارتطام الكبير” الذي بشّروا به ليرتاحوا من ضجيج الناس. لذلك رفضوا تثبيت تعديل المرسوم 6433 وتخلّوا عن حقوق لبنان في حقل “كاريش” التي أثبت الجيش اللبناني صحتها ومصداقيتها من خلال المنهجية العلمية الدقيقة التي اعتمدها ضبّاط متخصصون، والتي نالت تقدير العديد من المراجع في الداخل والخارج.
من هنا يأتي تركيز االمقاومة في هذه المرحلة على أسلوب الدرونات سعياً إلى توضيح الحقائق أولاً وبناء استعدادية متكاملة أمام أي عدوان محتمل. وعلى أهمية الأسلحة المتعددة والمتقدمة المتوفرة مع المقاومة، ومنها الطائرات المسيّرة، فالقيادة تدرك تماماً أن السلاح وحده لا يكفي، لأن ما يجعله فاعلاً ومؤثراً هما الإرادة والاستعداد لاستخدامه. وعملية المسيرات الثلاث وما قبلها قدّمت التأكيد الجديد على هذه الإرادة. وللتذكير ايضاً فهذه المسيرات لم تكن نقطة ضائعة بل جملة قصيرة في نصّ طويل. فقد سبقتها مسيّرات أخرى كثيرة جرى الإعلان عن بعضها فقط دون الأخرى، منذ “مرصاد 1” مروراً بمسيّرة “أيوب” ووصولاً إلى مسيّرة “حسّان”… اللقيس، شهيد المقاومة المتوّج. وهذه الأخيرة حلقت لحوالى ساعة من الزمن في أجواء بحيرة طبريا وحوضها، من دون أن تتمكن تكنولوجية رادارات العدو الإسرائيلي وربيبه الأميركي من التقاطها. والسرّ يكمن في محرّك تلك المسيّرة… والباقي غير معروف، حيث قيل أنه كان “محرّكاً شبحياً”، في تعبير لم يتمكن قائلوه من تفسيره (أو لم يرغبوا في ذلك). ولقد صوّرت مسيّرة “حسّان” أكثر من عشرة أهداف حسّاسة للعدو من بينها عدة مطارات عسكرية في منطقة طبريا وجوارها.
اليوم يتراوح عدد الدرونات في ترسانة المقاومة ما بين 2000 و30 ألف مسيّرة حسب مصادر العدو الإعلامية. وجميعها يمكن أن تكون مجهّزة بالكاميرات وبالصواريخ وبالمتفجرات، حسبما تدعو الحاجة، ويمكن أن تكون أيضاً عصية على اكتشافها من الرادارات العدوة، تماما مثل مسيّرة حسّان. ولا شك أن “تغريبة الدرون” هي فاتحة مستقبل فلسطين.
لكل ذلك أولاً، ولأنّ الطرف العدو المعنيّ بالصراع اليوم ليس له مصلحة في نشوب حرب كبرى في ظل مصالحه في النفط والغاز، وما يعرفه عن عناصر قوة المقاومة، ولأن الغرب (الذي يرعاه) في أمس الحاجة إلى النفط والغاز الشرق-أوسطي للتعويض عمّا حرمه منه الروس… فإن الحرب على كاريش وغير كاريش لن تقع. وهذا من فضائل المقاومة.
ثم إن الدخول على الخط بشكل مباشر عبر المسيّرات الثلاث، أدى إلى تحريك الجمود الذي أحاط بملف الترسيم والاستثمار، في وقت يبدو العالم كله خلاله مشغولاً بمشاكله. فواشنطن غارقة في ملف أوكرانيا ــ روسيا ــ الصين؛ إدارة الرئيس بايدن تتخبّط على أبواب الانتخابات النصفية التي تلوح بشائر خسارتها في الأفق تحت مطارق ارتفاع أسعار الوقود والمواد عموماً إلى مستويات قياسية، وصمود روسيا في الميدان الأوكراني؛ وفرنسا غارقة في أحزان رئيسها الذي أدّى “رسوبه” في الانتخابات الأخيرة إلى… إخراجه من لبنان.
لذا فلندع جانباً الاستنتاجات المتسرّعةً بينما يتواصل صراع الإرادات، ولنقلّد الصاروخ الذكي
(wait end see): ننتظر ونرى…
أما على صعيد نأي ميقاتي بنفسه عن تشكيل الحكومة كما عن الاهتمام بتحصيل أو حماية “كنز اللبنانيين” في الأعماق، فهذا، دأبه منذ أن ارتأى انتقاد جهاد المقاومة من أجل الحق اللبناني، وقبل ذلك تجويع المواطن لمضاعفة ثرائه وشركاه .