محمود بري | كاتب وباحث لبناني
الحديث عن احتمال مواجهة نووية على خلفية الحرب الدائرة في أوكرينيا، لا يبدو جاداً بما يكفي للاهتمام بالإجابة عنه. والتساؤلات بهذا الخصوص غير مطروحة اساساً خارج بروباغندا الإثارة والتشويق. الأجدى التحدث عن حقيقة واقعة… وهي نشوب حرب جديدة وسط أوروبا… مما كان العالم كلّه على شبه يقين من أن لا مجال لوقوعها. أقول هذا وأستدرك أنه ليس من المنطقي أبداً الاستخفاف بما هو حاصل. فالحركة الروسية،بصرف النظر عن التبريرات أو الاتهامات، فتحت الباب أمام أزمة عالمية لا تخلو من الخطورة. وهذا ليس من قبيل التضخيم. من الطبيعي مقارنة ما يحصل الآن بأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962 (وإن معكوسة) والتي وضعت الكوكب على شفا مواجهة نووية. المقارنة لن تكون في صالح أوكرينيا ولا واشنطن. فصواريخ نيكيتا خروتشيف في حينه كان جرى نصبها على بعد 120 كلم من شواطئ ميامي الأميركية، مع ما يشكل ذلك من تهديد وشيك للولايات المتحدة الأميركية، في حين أن صواريخ جون بايدن اليوم (في حال ضمّ أوكرانيا إلى الناتو)، لن تكون على مسافة كيلومتر واحد عن الأرض الروسية، بل على حدودها مباشرة. وهنا ينبغي التذكير بأن أوكرينيا تتشارك مع روسيا الإتحاديّة في مساحة حدوديّة كبيرة، ما يمنح الناتو في حال انضمامها إليه، أفضلية إستراتيجيةً استثنائيةً لا يمكن للروس السكوت عليها. هذا الوضع الحسّاس هو ما رفض الغرب الأميركي والأوروبي، وبصفاقة استفزازية، عدم إيلائه أي اهتمام، مع تجاهل غير مسؤول لاعتراضات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومخاوفه المنطقية من تحويل دولة على حدوده إلى منصة تهديد. والأنكى كان انصراف بايدن (والجوقة) إلى لعب دور المحللين الإعلاميين أو مُذيعي المزادات العلنية، بإطلاق التصريحات حول تحديد مواقيت الهجوم الروسي الذي كانوا يرونه حاصلاً لا محالة، بدلاً من محاولة العمل على تهدئة الأمور ونزع فتيل الأزمة…كأنما الغرب عموماً كان يدفع ببوتين دفعاً إلى شنّ الحرب… ذاتها التي راحوا يتباكون على نشوبها. من الضروري الإشارة إلى إن الرئيس الروسي قام بداية بما ينبغي عليه القيام به، في سبيل تجنب ما هو حاصل اليوم. فقد راح يحشد عسكرياً أمام العالم كلّه، كطريقة واضحة لجعل اعتراضاته ومخاوفه مسموعة، ومُختصرها عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو، الحلف العسكري الغربي نفسه الذي قال بوتين إنه قد تلقى منه وعداً بعدم التمدد شرقاً على الاطلاق. لكن تعبير بوتين عن عدم الرضا وحتى عن مخاوف بلاده الواضحة والمفهومة، كان كله بلا صدى. المعنى أن واشنطن والسائرين في ركابها، كانوا يرفضون البحث في مطالب موسكو ولا مجرّد الالتفات إليها. وهذا استخفاف يُبطن عنجهية غير مسؤولة، تُذكر بالمسرحية الفجّة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب” عام 2018 ، حين ألغى، بمبادرة شخصية، إتفاقاً رسمياً موثّقاً بين دولتين إحداهما الدولة التي يترأّسها (الاتفاق النووي الإيراني) الذي كان عقده الرئيس السابق باراك أوباما عام 2015 مع تهران). ألغاه ترامب كأنه يُلغي طلب كوب ماء في مقهى.. كان واضحاً للجميع أن دفع روسيا إلى مهاجمة أوكرانيا لا بد له أن يؤدي بشكل مباشر إلى زعزعة استقرار البلد على أوسع نطاق، ومعه القارة الأوروبية بمجملها، وهذا ما هو حاصلُ حالياً، وسيفتح إمكانية مواجهة، ولو بعيدة الاحتمال، بين قوى نووية عُظمى. لكن هذا المستوى من المخاطر المُحتملة كان هيّنا على الإدارة الأميركية، مقابل رغبتها الجامحة في “تحييد” روسيا بوتين، وهو التعبير الذي تستخدمه الإدارة في واشنطن بمعنى التخلص من خصم أو عدو، والآن من روسيا. فعلى الرغم من ليبرالية الدولة الروسية، إلا أنها بقيتة مثابة “عدو” في عمق التفكير اليميني الأميركي الذي يصرّ على رؤيتها قوة صاعدة غير صديقة، ويواصل تثقيلها بمطامح مزعومة عن نيتها استعادة دور تنافسي كان للإتحاد السوفياتي السابق. الآن، وبينما الحرب تتواصل داخل أوكرانيا، يعمل أخصام روسيا ويبذلون أقصى الجهد لجعل هذا البلد الأوروبي الغني، مقبرة للقوة الروسية الصاعدة، من دون أيّ اهتمام بالنظر إلى الصورة من الزاوية الأخرى… فهذه الحرب تستلب قلب أوروبا أولاً، كم أن أوكرينيا هي الحليف المُطيع للحصّادة الأميركية… لكن من الواضح أن هذه لن تتورع عن حصاد حليفها الأوروبي إن اضطرت، في سبيلها إلى تحقيق غاياتها. المعروف أن الأضرار التي يمكن أن تلحق بالقارة العجوز جرّاء هذه الحرب، لن تكون بسيطة، ولن تقتصر على القارة وحدها. فزعزعتها سيجعل واشنطن وحيدة مع تعطيل حراك حليفها الأوروبي، وسيُدخلها في خضم مواجهة لا بد أن تجر الصين إلى جانب روسيا، ما لن يكون في صالح الحلف الغربي على الإطلاق، ولا في صالح واشنطن تحديداً وهي الخارجة للتو منهكة من أفغانستان، والموشكة على الخروج النهائي والكامل من العراق. وعلى المستوى الاقتصادي فالخسارة ستكون ثقيلة على ضفتي الأطلسي سواء بسواء، حيث تخسر كل من أوروبا وأميركا شريكها الاقتصادي الأساسي الذي لا قِبل لأيّ منهما بتحمل خسارته بسهولة، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار الحجم الهائل للتعامل التجاري بين الطرفين والذي يزيد عن تريليون دولار. ثم ماذا ستفعل القارة الأوروبية إذا ما حرمتها اللعبة الأميركية والأحداث التي يمكن أن تستجرّها، من الغاز الروسي…؟ لا بد من الانتباه جيداً إلى أن لهذا الغاز أهمية حيوية استثنائية جداً لأوروبا. والحصول على الكمية المطلوبة منه (لإبقاء أوروبا على قيد الحياة والإنتاج والدف…) من مصدر آخر، لا بد أن يستغرق سنوات عديدة (يستحيل أن تعيشها القارة بسلام) وثروات طائلة غير متوفرة بفعل الانفاق الهائل على الكوفيد19 وتفاصيله. ربما كانت المشكلة القاتلة التي لا توليها أوروبا ما ينبغي من الاهتمام، تتمثل بحاجة اليانكي الدائمة إلى عدو… وهذه ليست ملاحظة خارج السياق. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي (كانون الأول/ديسمبر 1991)، العدو الأساس لليانكي، رأت “الدولة العميقة” في واشنطن أن تتخذ من روسيا ذاتها، واو بلا السوفيات، مشروع عدو بديل. وهذا ليس من وحي الخيال ولا المبالغة… أليس أنه أيام كان بوريس يلتسين (المعروف بمحاباته القصوى للغرب) رئيساً لروسيا، أعرب للإدارة الأميركية (المنتصرة) يومها عن رغبة بلاده في الانضمام إلى حلف الناتو… إلا أن طلبه قوبل بالرفض (!). اليوم، تبدو الأمور على رأس كتلة من الاحتمالات، يمكن اختصارها بإثنين: إطالة الحرب وابتكار العوائق الجديرة أمام التقدم الروسي، بما يجعل من أوكريني “المقبرة” التي يريدها الغرب لبوتين. وها ما يبشّر به الرئيس الفرنسي بتكرار قوله إن الحرب طويلة. المعنى أنه ينبغي إطالتها لتحويل أوكرينيا إلى حفرة كبيرة لدفن القوة الروسية. الغرب الأميركي والأوروبي يتنافسان في الإعلان عن إيصال شتى أنواع الدعم والسلاحي والعتادي والاقتصادي للرئيس الأوكريني الذي يبدو كالراقص على حبل فوق هوّة عميقة. المطلوب إغراق بوتين…والقضاء عليه. هذا هو أمر اليوم في الغرب. أما الاحتمال الآخر فهو ما لا يضعه الغرب في القائمة… لكن…ماذا لو انتصر بوتين في حربه هذه…؟