محمود بري | كاتب وباحث لبناني
بالنظر إلى الحالة السائدة ينبغي التعريف لرجل الشارع اللبناني غير المختص بما يعنيه مضمون التعبير الذي بات شائعاً اليوم وهو ” Capital Control ـــ أي ضبط رأس المال”. في حقيقته يتضمن هذا المفهوم جُملة إجراءات يجري اعتمادها للعمل على مراقبة وضبط رأس المال. هذه الإجراءات تتخذها الحكومة أو البنك المركزي أو الهيئات التنظيمية الإقتصادية والمالية الأخرى بهدف العمل على الحدّ من تدفق رأس المال الأجنبي من وإلى الاقتصاد المحلي. من هنا يشمل المُصطلح القيود التي تضعها الدولة على تحويلات رؤوس الأموال من والى هذه الدولة. وهي تشمل إجراءات ضبط حركة الأموال وفرض الضرائب ووضع التعريفات والتشريعات على المودعين وعلى الشركات في السوق المحلّية للسيطرة على حجم السحوبات اليومية عبر المصارف وعلى التحويلات النقدية. على الصعيد اللبناني يتوجه اعتماد الكابيتال كونترول إلى تقييد حركة الرساميل، وبخاصة منها تلك الخارجة من لبنان، من أجل إقامة حالة توازن وبالتالي وضع حدّ “صحّي” لخروج العملات الصعبة من البلد، سواء بالطرق المشروعة أو من خلال عمليات تهريب العملة إلى الخارج، أو الاستيراد بما يتجاوز حاجة البلد. بهذا المعنى فالهدف الأساسي والحقيقي من الكابيتال كونترول هو الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي، والحيلولة دون تدهور الأوضاع المعيشية للمواطن. إلا أن تطورات الأوضاع في لبنان وتداخل المستجدات السياسية مع المصلحة الشخصية، فضلاً عن التأثيرات الثقيلة لأصحاب رؤوس المال والرساميل داخل وخارج أروقة السلطة، قلب كل ما سبق تفصيله رأساً على عقب. فقد أتيح للمتموّل تمرير مصلحته الشخصية على حساب المصلحة الوطنية العامة، ومضاعفة أرباحه بكل الطرق المتاحة له حتى خارج القوانين المرعية الإجراء، ومن دون سقف ولا قعر. جرى ذلك تحت مزاعم ما يُبيحه “الاقتصاد الحر” الذي ورد ذكره في مقدّمة الدستور ( الفقرة “و” التي تنصّ على أن “النظام الاقتصادي حرّ…)، وهي مزاعم واهية ولا اساس لها، مسخت مسألة “الاقتصاد الحر” لتجعلها في كثير من الأحيان مجرّد حرّية مطلقة لرأس المال ولصاحبه. وفي ذروة الفوضى والتفلّت وانعدام المساءلة وتورط المسؤول أحياناً في اللعبة الجهنمية، انطلق البعض مُفسّراً التعبير على غير المقصود منه، ما جعل حرية الاقتصاد التي يلهج بها، نوعاً من حرية خاصة به وبحركة رأس ماله، من دون وازع ولا مانع. فالمعروف ان الإقتصاد اللبناني يقوم على حريّة حركة الأموال وتنقّلها في إطار إقدام المبادرة الفردية المُستساغة، وبالاتكاء على دينامية وحيوية القطاع الخاص. لكن وتحت كل الحركة القائمة ومهرجانيتها الظاهرية، راحت المصارف تنشط بطرق خفية معتمدة نوعاً غير معلن من الكابيتال كونترول الذي سخّرته لمصلحتها، وراحت تفرضة على المودعين من دون ضوضاء، ما أدّى إلى حالة تدهور متفاقمة للوضع المعيشي للمواطن الذي بات ضحية درجة مؤلمة من الغبن الاجتماعي، كما تسبب باضطرابات مالية متزايدة باتت تعصف بالشركات اللبنانية القائمة على الاستيراد. تحت غطاء هذا الكابيتال كونترول المزاجي غير المعلن وغير المشروع والخارج عن رقابة الدولة، مما فرضته المصارف على المواطن اللبناني المتعامل معها، جرى تنفيذ إجراءات خارجة على كل القوانين، منها على سبيل المثال، عدم السماح للمواطن الذي أودع مالاً له بعملة أجنبية، بسحب ماله بتلك العملة الأجنبية، مع إلزامه بسحب مبلغ محدود ويسير منها في الشهر أو في الأسبوع… وفي هذا نوع غير مسبوق من المخالفة للقواعد والأصول القانونية مما يعتبر صنفاً من “البلطجة” لا سابقة له لا في لبنان ولا في أي بلد آخر. وبلغت الأمور مؤخراً حدّ التلويح بعدم السماح للمودع باستعمال بطاقة الدفع الإلكترونية Internet Debit Card حتى ولو كان حسابه مُغطّى. كل ذلك والحكومة تقف جانباً، ومعها المجلس النيابي، فلا يتدخل أحدٌ من السلطة التنفيذية ولا من المشرّعين للدفاع عن حقوق المواطن البديهية في ماله ورزقه، اللذين تحوّلا إلى شبه رهينة لدى المصرف. وبالعودة إلى السياق، فلا شك أن أول وأهم ما هدف إليه الكابيتال كونترول المطلوب هو منع هروب الرساميل أو تهريبها خلسة، من داخل البلد إلى خارجه. وهذا يقتضي اعتماد الشفافية في المعاملات المالية على مستوى المصرف المركزي كما على مستوى أنشطة المصارف العاملة كافة. كذلك وجوب وضع الضوابط المتينة على عمليات التحاويل إلى العملات الأجنبية للحيلولة دون تهريب رؤوس الأموال وتدهور سعر الصرف. وفي هذا حماية للمودعين من خلال الحفاظ قدر الإمكان على الأصول بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي. فهذه الرساميل بالغة الأهمية في تحقيق وتثبيت وديمومة الاستقرار النقديّ والماليّ في البلد، وأيّ تخفيض لها في احتياطي المصرف المركزي، من شأنه هزّ الاستقرار النقدي وتعريض البلد للأزمات التي تنعكس سريعاً على المجتمع. من هنا يتوجب على السلطات المالية والسياسية المعنية السعي سريعاً والعمل من دون إبطاء على استعادة ما جرى تهريبه من الرساميل أو إخراجه خلافاً للقانون. وفي إحدى المحاولات التي لم يُعرف مصيرها إلى الآن، أراد القائمون على الشأن المالي توزيع الخسائر على الأطراف المتسببة بها وهي الدولة والمصرف المركزي والمصارف العاملة، مع إضافة أصحاب الودائع إلى اللائحة بتحميلهم قسطاً من المسؤولية عن عمليات نهب الأموال، وعن الأزمة التي ليسوا مسؤولين عنها، بل هم في طليعة ضحاياها، وتحميلهم بالتالي جزءاً من الخسائر التي تُضاف إلى خسائرهم الكارثية سواء في ضياع حقوقهم الماليه أو في هدر المال العام الذي انعكس عليهم كما على المواطنين كافة. ومع إقرار الحكومة مؤخراً قانون “الكابيتال كونترول”، بعد إدخال تعديلات شكلية عليه، تبقى الأزمة مفتوحة على مزيد من التفاقم، بانتظار أن يتبيّن حصاد المفاوضات مع وفد البنك الدولي، في حين يبدو أن السياسة في البلد غارقة في شبر ماء الانتخابات التي من قبيل الخيال أن يُتوقع منها “إخراج الزير من البير”، بخاصة وأن معظم التوقعات تُشير إلى عودة الطبقة السياسية نفسها التي تتحمل مسؤولية الانهيار الحاصل.