محمود بري | كاتب وباحث لبناني
على خلفية “العملية الخاصة” التي يقوم بها الموفد الفرنسي الخاص جان إيف لودريان إلى بيروت، من المغامرة الحديث منذ الآن عن نتائجها والمآلات التي يمكن ان تُفضي اليها. إلا ان الاستقراء يبدو اشد جاذبية من الامتناع عن تقليب صفحاته، ولو كان مجرد ضربٍ بالرمل.
فالدور الفرنسي في لبنان قديم ويتواصل منذ ما قبل عهد الانتداب ومرحلة “الاستقلال”، ولقب “الأم الحنون” لم يأتِ من عدم. كذلك فمن الشائع اعتبارها الدولة الأكثر تعمقاً في متابعة الأزمات التي تعاقبت على البلد منذ الشرارة الأولى للانهيار عام 2019، ثم كارثة تفجير المرفأ عام 2020 ونهش ودائع اللبنانيين في المصارف وصولاً الى اندلاع حريق الفراغ الرئاسي عام 2022، فضلا عن أثقال وأعباء الأزمات المدمرة على مختلف مستويات الدورة الحياتية البائسة للبنانيين بفعل الرقصة الجهنمية للدولار والأسعار واستثمار ذلك لصالح البوطة المتحكمة بالناس والبلد من دون ادنى اهتمام برفع هذا النير الغاشم.
إلا ان جميع الخطوات الفرنسية والمهام والمداخلات والجهود، والتي كانت ذروتها حضور الرئس ماكرون شخصياً وجمعه “ديوك البلد” في قصر الصنوبر، لم تُؤتِ ثماراً يمكن الاعتداد بها، بل إن نتيجتها ما كانت اكثر ولا اقل من صفرٍ مكعّب. فاستمرت الأزمات المتناسلة سِفاحاً ولم يتحرّك الوضع قيد أنملة الى ايّ برّ امان.
وما يزيد الطين بلّة أن اخبار لودريان قبل انطلاقه في مهمته، كشفت انه يأتي في مهمة استقصائية لاستجلاء وقائع الوضع، كأنما باريس هي تناناريف عاصمة مدغشقر… ولا تعرف شيئاً عن البلد ومجريات أموره، ما يعني انها ليست البتة في صورة واقع البلد، وان مجمل التحركات الفرنسية رست على جهل مطبق بالواقع ووقائعه وحقيقة المافيا المقتدرة التي تمسك بمفاصله وخناقه. كما لو ان هذه الدولة المهتمة لا ليست منشغلة حقيقة بمتابعة التفاصيل الدقيقة في يوميات اللبنانيين، ولا تعمل على التدقيق في خطابات رؤساء الاحزاب والكتل النيابية، ولا تعلم علم اليقين ان الاكثرية الحاكمة لا تعمل إلا من اجل تحقيق مصالحها الشخصية وثرواتها المنهوبة على حساب البلد والمواطنين، وان النظام اللبناني بات يستنزف طاقته الأخيرة في ادارة الفوضى التي صنعها بالعنجهية والجشع تحت نظر الاميركي، ولا يهتم بغير ما يؤبد استمراره ويُشرّعه كأمر واقع.
واضح لمن يهتم ان كل هذا التدهور في حياة المواطنين وفقدانهم كل امل بمستقبل مختلف يعرفه الجميع، من متابعي النشرات الاخبارية وخبريات واتساب وأخواته وصولا الى السفراء الأجانب والعرب وسائقيهم ومرافقيهم.
وهذه ليست ولا يصح اعتبارها ملاحظة شكلية.
إن دعوة لودريان التي سبقته الى جمع من اسماهم بالقادة اللبنانيين إلى “جلسات استماع” في قصر الصنوبر، مما سبق للرئيس ماكرون أن جرّبه وفشل فيه كل الفشل، كما زيارته بعد كارثة المرفأ، من شأنها فقط ان تستعيد مهزلة “دق الماء” بلا زيادة أو نقصان. وما لم يكن في جعبة المبعوث الفرنسي الخاص مصباح علاء الدين السحري – والفرنسي لا يؤمن بالسحر الشرقي- أو سيفاً اميركيا حاسماً، فلن يتغيّر شيء.
هذا مع التذكير بأنه ليس في مصلحة الأميركي تسليم لجام الحصان لفرنسا في لبنان الذي شيدت فيه واحدة من أكبر سفار اتها في العالم، ولا يمكن ان تكون في وارد التخليّ عن مصالحها ودورها في بلد الفوضى البنّاءة على الطريقة الأميركية.
وإذا افترضنا ان ماكرون يحاول استثمار الانشغال الاميركي بحرب أوكرانيا ومواجهتهم الباردة مع الصين، كي يلعب في لبنان حسب مصلحته، فهذا لن يكون اكثر من حماقة إضافية تُضاف الى مسلسل حماقاته التي لا تنتهي.
ربما كانت باريس مُستنقعةً لا تزال في بركة انتدابها على لبنان وسلطانها فيه، وهذا ما يبدو… وإلا فماذا يفسّر اقتناعها بأنها ما برحت صاحبة كلمة مسموعة وآمرة في بلد لم تتمكن حتى الآن من إقناع موارنته على الاقل بأنها خانتهم بدفع فرنجية على طريق بعبدا.
ولا يكفي فرنسا اعتبارها ان تحسين موقعها في الشرق الأوسط من شأنه أن يُبعد موسكو وبكين عن هذا المسرح. فهذه خصوصية أميركية. والأميركي لا يترك دوره لأيّ آخر.